الأمم المتحدة واتهام المقاومة بالعنف الجنسي.. أوجه عوار التقرير
الأمم المتحدة واتهام المقاومة بالعنف الجنسي.. أوجه عوار التقرير
دكتور محمود الحنفي
نشرت وكالة “أسوشيتدبرس” الأميركية قبل أيام تحقيقًا صحفيًا يكشف كذب مزاعم اتهام عناصر المقاومة الفلسطينية بارتكاب عنف جنسي يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، لتوجّه بذلك ضربة موجعة للرواية الإسرائيلية التي سقط في فخّ تأييدها صحفٌ مثل “نيويورك تايمز”، بل والأخطر أن يتورط تقرير مثير للجدل صدر عن الممثل الخاص للأمم المتحدة في دعمها، وهو ما نناقش منهجيته في هذا المقال.
وقد أصدر مكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالعنف الجنسي في حالات النزاع ذلك التقرير عقب زيارة رسمية إلى دولة الاحتلال امتدّت بين الـ 29 من يناير/كانون الثاني، وحتى الـ 14 من فبراير/شباط، وأصدره رسميًا في الرابع من مارس/آذار 2024.
ولأن توقيت صدور التقرير كان مريبًا فضلًا عن اعتماد مسؤولين إسرائيليين عليه بشكل كبير في التدليل على “بربرية” عناصر المقاومة، ما يعطي الحق لجيش الاحتلال لفعل ما يشاء تجاه هذه “الهمجية الوحشية”، فإن ثمة تساؤلات نقديةً حول المنهجية التي اعتمدها التقرير في الوصول إلى الخلاصات النهائية، واتهام عناصر المقاومة “بارتكاب انتهاكات جنسية”، وعن نوعية الأدلة التي بنى عليها هذه الخلاصات، وهل هي فعلية أم تحليلية؟ وكيف سمحت سلطات الاحتلال للجنة بزيارة إسرائيل، بعد أن كانت قد منعتها، في حين منعت عشرات البعثات الأممية من زيارة سواء قطاع غزة أم أراضي الضفة الغربية المحتلة أم القدس؟
معلومات أساسية حول التقرير
يستند التقرير المؤلف من 23 صفحة إلى نتائج الزيارة الرسمية لمكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة على مدار 17 يومًا، والذي صدر في 4 مارس/آذار 2024، وهو يستند في غالبيته إلى مصادر رسمية إسرائيلية على أنها حقائق ثابتة، رغم كون إسرائيل طرفًا أساسيًا في الصراع ما يناقض أبجديات الأسس العلمية.
كما أن البعثة لم تقم بزيارتها إلى الأراضي المحتلة إلا بناء على دعوة رسمية تلقتها من الحكومة الإسرائيلية وذلك بعد رفضها قدوم البعثة في وقت سابق؛ ما ينذر بتحريف الأدلة والضغط على الشهود المحتملين لتوجيه مسار البعثة الاستقصائي. كما أن البعثة استهلت أعمالها بمقابلة 33 شخصية رسمية إسرائيلية لا تخدم هدف البعثة الأساسي، من بينها الرئيس الإسرائيلي والسيدة الأولى، وجيش الدفاع وجهاز الأمن العام. من جهة أخرى فإن تحليلًا معمقًا لتقرير اللجنة يثبت انتفاءه من أية شهادات حقوقية لضحايا العنف الجنسي المزعوم.
الشك في مصداقية المعلومات
ثمة تناقض بين الفقرات يشكك في مصداقية التقرير ككل. ففي الفقرة 22 يقول التقرير: “في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، تلقت إدارة الممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالعنف الجنسي في النزاعات دعوة رسمية من حكومة إسرائيل”.
أما الفقرة 21 فتشير كيف أن “عدم التعاون وعدم السماح للجنة الدولية المستقلة للتحقيق.. حال دون حصول الأمم المتحدة على معلومات موثوقة أو محققة بشأن العنف الجنسي المرتبط بالهجمات التي شنتها حماس والجماعات المسلحة الأخرى”.
يثير السلوك المشكوك فيه الذي أبدته حكومة الاحتلال فيما يتعلق بالتعاون (بعد الرفض)، خاصة الوقت المتاح أمامها، مخاوف جادة بشأن العبث المحتمل بالحقائق وممارسة ضغوطٍ على الشهود للوصول إلى إفادات موجّهة.
تدفعنا مثل هذه الظروف التي من خلالها صدر التقرير إلى التشكيك في شرعية الأساس الواقعي الذي يُبنى عليه التقرير، خاصة أنه يعتمد بشكل كبير على معلومات “تم الحصول عليها إلى حد كبير من المؤسسات الوطنية الإسرائيلية”، كما هو مذكور في الفقرة 55.
إن هذه الخلفية السياقية التي تم تجاهلها في الوصول للخلاصات تستدعي اهتمامًا كبيرًا باعتبارها تهديدًا جوهريًا لمصداقية المعلومات المقدمة، خاصة أن إسرائيل طرف في النزاع الدائر، ولديها مصلحة راسخة في التأثير على نتائج التقرير.
منهجية غامضة في تقصي الحقائق
أجرت البعثة “33 مقابلة، بما في ذلك مع الناجين والشهود على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، والرهائن المفرج عنهم، والمستجيبين الأوائل، ومقدمي الخدمات الصحية والاجتماعية. كما التقى فريق البعثة أيضًا بعائلات وأقارب الرهائن الذين ما زالوا محتجزين، وكذلك بأفراد المجتمع النازحين من كيبوتس نيرعوز.. ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، وممثلين عن الأوساط الأكاديمية”، (الفقرة 3).
يفتقر التقرير إلى الوضوح بشأن توزيع المقابلات بين هذه القطاعات المذكورة أعلاه. ونظرًا للعدد الإجمالي المحدود للمقابلات التي أجريت، وإدراج أفراد لا يمتلكون خبرة مباشرة كشهود أو ضحايا أو ناجين من العنف الجنسي (مثل الأوساط الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني وعائلات الرهائن الذين لم يتم إطلاق سراحهم)، فإنّ مجموعة المقابلات المفيدة التي يمكن أن تقدم شهادات مهمة تتضاءل بشكل كبير.
يبرز التقرير في الفقرة 36: “اجتمع فريق البعثة مع 27 ممثلًا عن المجتمع المدني الإسرائيلي، بما في ذلك منتدى الرهائن والعائلات، والمنظمات غير الحكومية، والأكاديميون، والناشطون في مجال حقوق المرأة، والعنف الجنسي والقانون الجنائي الدولي”. وهذا يقلل عدد المقابلات التي يحتمل أن تنتج أدلة عن عنف جنسي إلى ما لا يزيد عن سبع مقابلات مع ناجين وشهود مرتبطين مباشرة بعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول والمحتجزين المفرج عنهم.
علاوة على ذلك، تشير الفقرة 37 إلى أن “فريق البعثة أجرى مقابلات سرية خاصة به مع الناجين والشهود على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول”.
يتناقض التقرير أيضًا مع نفسه من خلال الإشارة إلى عدم وجود ناجين أو ضحايا للعنف الجنسي، مما يثير الشكوك حول صحة أية شهادات مزعومة من الضحايا أو الشهود في إعداد التقرير. إن هذا الافتقار للوضوح فيما يتعلق بالشهادات التي تم جمعها يقوض من مصداقية التقرير في تلبية معيار “تحديد الوقائع”، كما هو موضّح في الفقرة 26.
على سبيل المثال، تذكر الفقرة 48 عددًا غير معروف من الناجين أو ضحايا العنف الجنسي، إلى جانب عدد قليل يخضعون للعلاج ويعانون من ضائقة نفسية شديدة وصدمة. استخدم التقرير لغة مضللة تهدف إلى طمس الفارق بين ضحايا العنف الجنسي، وضحايا الهجمات الذين يخضعون للعلاج، مما يخلق الالتباس ويضعف معيار الإثبات الأساسي للتقرير.
تجاوز حدود الاختصاص
يتناول التقرير، وفي صفحات كثيرة، الصراع بين إسرائيل وحماس إما بالعرض أو بالتحليل. إن هذه المنهجية لا تتوافق مع مهام البعثة العامة وأهدافها الخاصة، كما هو موضح في التقرير. يقول التقرير في الفقرة 40: “تعقيد وطريقة عمل الهجمات، التي يبدو أنها حدثت على ثلاث موجات تراكمية، يبدو أنها تظهر مستوى مهمًا من التخطيط والتنسيق والمعرفة المسبقة التفصيلية بالأهداف المختارة”.
هذا النوع من التحليل لا يرتبط بمهام الممثل الخاص للأمين العام المعني بالعنف الجنسي في حالات النزاع (SVC)، بل يتعلق بالإطار العام للصراع. كما أنه يشير في الفقرة 42 إلى أن “المعلومات التي استعرضها الفريق تُظهر أن العناصر المسلحة جاءت مجهزة بأسلحة ومعدات ثقيلة وعسكرية تتراوح بين القاذفات الصاروخية والبنادق الآلية …” ويضيف: “حملة عشوائية للقتل وإحداث المعاناة واختطاف أكبر عدد ممكن من الرجال والنساء والأطفال”. إن هذا العرض لا يساهم في تركيز المهمة على توثيق حالات العنف الجنسي.
يؤدي هذا الخلل في التوازن بين طرفي الصراع إلى نتيجة متحيزة.
أحادية مصدر المعلومات
يعتمد التقرير بشكل كبير على مواقف حكومة الاحتلال كما لو كانت دلائل مثبتة. على سبيل المثال، يتناول التقرير موقع مهرجان نوفا كموقع هجوم، ويؤكد في الفقرة 58 أن هناك “أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن هناك عدة حوادث اغتصاب، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي، قد وقعت في وحول موقع مهرجان نوفا خلال هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول”، مستشهدًا بـ “مصادر موثوقة” شهدت الاغتصاب وجثث النساء عارية، وبعض النساء مصابات بجروح ناتجة عن طلقات نارية.
إن واقعة مهرجان نوفا مشكوك فيها، ومن مصادر إعلامية إسرائيلية، فيما إذا كان قد استهدف فعلًا خلال الهجمات الفلسطينية، أم أن طائرات إسرائيلية كانت مسؤولة عن القتلى والأضرار بسبب سوء تقدير من طيار.
تقرير مسيّس
أجرت البعثة كما ذكرنا مقابلات مع 33 شخصية سياسية رفيعة المستوى، وهو ما يعادل عدد المقابلات التي أجريت مع الأطراف ذات الصلة خلال المهمة. هذه النقطة بالتحديد تضرب تجرد وحيادية التقرير. كيف ذلك؟
إضافة إلى الاجتماعات مع وزارتي الصحة والعدل ومكتب النائب العام والشرطة الوطنية الإسرائيلية المسؤولة عن التحقيق في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أجرى فريق المهمة أيضًا اجتماعات جانبية مع عسكريين وسياسيين لا علاقة لها بنطاق المهمة. وشمل ذلك زيارات لرئيس إسرائيل والسيدة الأولى وضباط من جيش الاحتلال ووزارة الخارجية وجهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك)، مما يشير إلى احتمال واضح لوجود تأثير سياسي على عمل البعثة ونتائجها.
إذا كانت الحوارات مع الأطراف الحكومية ضرورية، فإنه يُفضل إجراؤُها بعد الانتهاء من التقرير لمناقشة تنفيذ الإجراءات الموصَى بها. علاوة على ذلك، فإن الاجتماعات مع الأطراف غير ذات الصلة بتركيز المهمة، مثل السيدة الأولى والمؤسسات العسكرية التي تدير العمليات الجارية في الصراع، تقوض موضوعية ومصداقية التقرير. علاوة على ذلك، يبدو أنّ عنوان “ب” للتقرير يتعمّد توزيع اللوم على جهات مختلفة إلا السلطات الإسرائيلية التي يعفيها من أي تقصير في جمع الأدلة والحفاظ عليها. هذا الإطار المتعمد يثير المزيد من المخاوف بشأن نزاهة وحيادية التقرير.
مسار محدّد يوصل لنتيجة محددة
على الرغم من عدم زيارة البعثة لغزة (الفقرة 79 و87)، فإنها لم تطلب القيام بذلك (الفقرة 23)، وعلى الرغم من وجود تسجيلات فيديو لنساء فلسطينيات قدمن إفادات عن عنف جنسي شديد تعرضن له على يد جنود إسرائيليين، وكذلك تسريب مشاهد تُظهر عريًّا قسريًا جماعيًا لهنّ بين المدنيين الذكور المحتجزين فإن التقرير اعتبر؛ أن “هناك معلومات محدودة جدًا حول ما إذا كان العنف الجنسي قد يحدث في غزة”، الفقرة 83.
في مقابل ذلك يخلص التقرير إلى أنّ “هناك معلومات واضحة ومقنعة بأن بعض الرهائن الذين تم أخذهم إلى غزة تعرضوا لأشكال مختلفة من العنف الجنسي ذي الصلة بالنزاع، ولديها أسباب معقولة للاعتقاد بأن هذا العنف قد يكون مستمرًا”، الفقرة 85.
تعتمد الاستنتاجات المتعلقة بالمحتجزين والمحتجزات الإسرائيليين على المقابلات مع العائلات التي ليس لديها اتصال بأفراد عائلاتها. عدد المحتجزين القلائل الذين قامت البعثة بمقابلتهم لم تلاحظ أيّ حالات من العنف الجنسي أثناء الاحتجاز كما يشير التقرير. ومع ذلك، وجد فريق البعثة “معلومات واضحة ومقنعة بأن البعض تعرّض لأشكال مختلفة من العنف الجنسي ذي الصلة بالنزاع، بما في ذلك الاغتصاب والتعذيب الجنسي والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة ولديها أسباب معقولة للاعتقاد بأن هذا العنف قد يكون مستمرًا.”، الفقرة 17.
هذه “المعلومات الواضحة والمقنعة” من أن حالات عنف جنسي حصلت بحق إسرائيليات قائمة على شكوك وليس دلائل راسخة: “يجب أيضًا مراعاة الدلائل الظرفية، مثل موقع الجثة وحالة الملابس، عند تحديد وقوع انتهاكات جنسية”، الفقرة 74. وكذلك ما ورد في الفقرة 60 “للتأكد من أنه تم العثور على جثث عدة – لنساء وبعض الرجال- عارية تمامًا أو جزئيًا أو كانت ملابسهم ممزقة، بما في ذلك بعضهم مقيّد و/أو مرتبط بالهياكل، وهو ما قد يكون دليلًا على بعض أشكال العنف الجنسي”.