بعد سنوات من المعاناة والملاحقات القانونية، تمكّن مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج، من استعادة حريته بفضل اتفاق أبرمه مع القضاء الأميركي. وبموجب هذا الاتفاق، اعترف أسانج بـ”ذنبه” في التهم الموجهة إليه بشأن فضح أسرار عسكرية، مما أدى إلى إطلاق سراحه.
وفقًا لوثائق قضائية نُشرت مساء الإثنين الماضي، وافق أسانج على الاعتراف بتهمة “التآمر للحصول على معلومات سرية تتعلق بالدفاع الوطني والكشف عنها”. جاء هذا الاعتراف كجزء من تسوية تضمن له إطلاق سراحه الفوري، خاصة أنه قضى السنوات الخمس الأخيرة محبوسًا في سجن بيلمارش شديد الحراسة في بريطانيا. وبموجب الاتفاق، سيتم الحكم عليه بالسجن لمدة 62 شهرًا، وهي الفترة التي تعادل مدة حبسه الاحتياطي، مما يتيح له العودة إلى بلاده أستراليا فورًا.
وأعلن موقع ويكيليكس بعد دقائق من نشر الوثائق القضائية أن “جوليان أسانج حر”، مؤكدًا أنه غادر بريطانيا عصر الإثنين بعد أن أخلى القضاء البريطاني سبيله في مطار ستانستد بالعاصمة لندن. ومن المتوقع أن يمثل أسانج أمام محكمة فدرالية في جزر ماريانا، بالمنطقة الأميركية الواقعة في المحيط الهادئ، لاستكمال الإجراءات الرسمية.
تعتبر هذه التسوية نهاية لواحدة من أكثر القضايا القانونية إثارة للجدل في السنوات الأخيرة، والتي دامت 14 عامًا. سارع أسانج إلى مغادرة بريطانيا واستعادة حريته، بينما رحبت أستراليا بهذه النهاية لمسلسل طويل من الملاحقات القانونية.
بدايات جوليان أسانج
ولد جوليان أسانج في الثالث من يوليو/تموز عام 1971 في تاونسفيل، بأستراليا. وأظهر منذ صغره ذكاءً وتفوقًا في مجال التكنولوجيا والحوسبة. بدأ اهتمامه بالبرمجة والأمن السيبراني في سن مبكرة، مما وضعه على مسار مختلف عن أقرانه. وكان متأثرًا بشدة بفكرة الحرية المعلوماتية وحق الناس في الوصول إلى المعلومات، وهو ما دفعه لاحقًا إلى تأسيس موقع ويكيليكس.
في عام 2006، أطلق أسانج موقع ويكيليكس، وهو منصة تهدف إلى نشر وتسريب الوثائق السرية والمعلومات الحساسة التي تكون في غالب الأحيان مغلقة أمام الجمهور. وكان هدف أسانج من وراء تأسيس ويكيليكس هو تعزيز الشفافية ومحاسبة الحكومات والمؤسسات الكبرى. ومن بين أبرز التسريبات التي نشرها ويكيليكس كانت الوثائق المتعلقة بالحرب في العراق وأفغانستان، والتي كشفت عن تفاصيل صادمة حول العمليات العسكرية والجرائم التي ارتكبت خلالها من طرف قوات الاحتلال الأميركي بالخصوص.
وقد أحدثت التسريبات التي نشرها ويكيليكس ضجة عالمية، وتسببت في موجات من الغضب والإحراج للحكومات المتورطة. وكان من بين أبرز تلك التسريبات “فيديو القتل العشوائي” الذي أظهر هجومًا جويًا أميركيًا في العراق أسفر عن مقتل مدنيين وصحفيين. كما نشر الموقع آلاف البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي فضحت كيفية تعامل الدبلوماسيين الأميركيين مع الحكومات الأجنبية.
المطاردة واللجوء
مع تصاعد الضغوط والتهديدات القانونية، اضطر أسانج إلى البحث عن ملاذ آمن. في عام 2010، تم إصدار مذكرة توقيف بحقه في السويد على خلفية اتهامات بالاعتداء الجنسي، وهو ما نفاه أسانج جملة وتفصيلًا. وفي خضم هذه الاتهامات، لجأ أسانج إلى سفارة الإكوادور في لندن عام 2012، حيث طلب اللجوء السياسي، وظل هناك لمدة سبع سنوات بفضل موافقة الرئيس رافائيل كوريا على استضافته في سفارة بلاده في لندن، محاولًا تجنب تسليمه للسلطات السويدية أو الأميركية.
كانت حياة أسانج في السفارة الإكوادورية معزولة وصعبة. لم يتمكن من مغادرة السفارة؛ خوفًا من الاعتقال، مما جعل حياته اليومية مرهقة نفسيًا وجسديًا. حيث إنه لم يكن لديه اتصال بالعالم الخارجي إلا من خلال الإنترنت، وكان يواجه صعوبات كبيرة في الحصول على الرعاية الصحية والخدمات الأساسية.
سحب اللجوء والاعتقال
في أبريل/نيسان 2019، تغيرت الأمور بشكل مفاجئ. قامت الحكومة الإكوادورية اليمينية بسحب اللجوء السياسي لأسانج، مما مهد الطريق لاعتقاله من قبل الشرطة البريطانية. تم اعتقال أسانج ونقله إلى سجن بيلمارش الشهير في لندن، حيث واجه تهمًا بخرق شروط الكفالة وانتظار إجراءات تسليمه إلى الولايات المتحدة، التي كانت تسعى لملاحقته بتهمة التجسس وتسريب معلومات سرية.
واجه أسانج معركة قانونية شرسة للدفاع عن نفسه ومنع تسليمه إلى الولايات المتحدة. جادل محاموه بأن تسليمه سيكون انتهاكًا لحقوقه الإنسانية، وسيعرضه لخطر سوء المعاملة. كما أكدوا أن محاكمته في الولايات المتحدة ستكون غير عادلة بالنظر إلى طبيعة التهم الموجهة إليه ودوافعها السياسية.
وخلال محنته، حظي أسانج بدعم واسع من ناشطين في مجال حقوق الإنسان وصحفيين ومنظمات دولية. اعتبر الكثيرون أن ملاحقته كانت هجومًا على حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة. تم تنظيم حملات دولية ومظاهرات لدعمه، كما دعت شخصيات بارزة إلى إطلاق سراحه وتوفير الحماية له.
الأثر المستقبلي
إطلاق سراح أسانج يثير تساؤلات عديدة حول مستقبل الصحافة الاستقصائية والشفافية الحكومية. وقد يكون هذا الحدث دافعًا لمزيد من النقاشات حول حقوق الصحفيين، وأهمية حماية مصادرهم. كما يمكن أن يشجع الحكومات على إعادة النظر في سياساتها تجاه حرية المعلومات والشفافية.
إن قصة جوليان أسانج هي قصة معاناة وصمود في وجه الضغوط والملاحقات. إنها تذكرنا بأهمية الدفاع عن حرية الصحافة وحق الجمهور في الوصول إلى المعلومات. وإطلاق سراحه لا يمثل فقط نهاية لفصل طويل من المعاناة الشخصية، بل يرمز أيضًا إلى انتصار قيم الشفافية وحقوق الإنسان. ويبقى أسانج شخصية مثيرة للجدل، لكن دوره في تعزيز الشفافية والمساءلة لا يمكن إنكاره.
في نهاية المطاف، تظل قضية جوليان أسانج نقطة تحول في تاريخ الصحافة العالمية، وتشير إلى التحديات التي يواجهها الصحفيون والمبلغون عن المخالفات في سعيهم لكشف الحقيقة. ستكون حريته بداية لفصل جديد في معركة حرية الصحافة وحق الجمهور في المعرفة، مما يؤكد ضرورة أن يعمل المسؤولون على خلق التوازن بين الشفافية والأمن القومي، وبين حرية الصحافة والمسؤولية الأخلاقية.