إن السلام غير المبنى على الإنصاف هو سلام هش وسرعان ما يزول، وهذا ينقلنا الى ضرورة تحقيق الإنصاف، سواء فى نظم القضاء المحلية، أو فى نظم القضاء الدولية التى تخضع للقانون الدولي.
إن عصرنا يشهد العديد من الحروب التى يتم التدخل لوقفها، ولكن سرعان ما تعود تلك الحروب مرة تلو الأخرى، بسبب عدم التعامل الصحيح مع الأسباب الحقيقية للصراع، وبسبب عدم حل مقطع النزاع بشكل منصف. إن السلام العالمى هو أكثر من مجرد غياب العنف، إنه تحقيق الإنصاف والعدالة وإزالة مقاطع النزاع.
وعبر التاريخ الإنساني، كانت هناك محاولات من الفلاسفة والمفكرين السياسيين لوضع نظريات مختلفة لتحقيق السلام، من أشهرها نظرية «سلام العولمة»، التى ترى انه إذا توحدت مجموعة من الكيانات فى كيان أكبر، وكونت اتحادًا فيدراليًا أو كونفيدراليا أو قوميًا ، مثل دول البريكس والاتحاد الأوروبي، فإن هذه الاتحادات الذاتية يمكن أن تتطور فى المستقبل، وتقوم بإنشاء نوع من الاتحاد العالمى يحول دون حدوث حروب بينها. وهذا يعنى من وجهة رأى هذه النظرية أن العولمة يمكن أن تنمو وتحقق السلام العالمى عبر دولة عالمية متحدة.
كما توجد نظرية قديمة ترى أن السلام لا يتحقق إلا من خلال القوة التى تقوم على الردع بحيث لا تستطيع دولة أن تحقق السلام إلا إذا امتلكت القوة واستطاعت ردع الخصوم، وهى فكرة قديمة منذ التاريخ القديم، ويمكن أن نستدعى هنا الحكام الفراعنة المصريين القدماء الذين حققوا السلام لبلادهم من خلال استخدام قوة الجيش المصرى للردع، فالجيش هو قوة دفاع فى المقام الأول. وهذا الشعار تم رفعه فى العديد من الدول والممالك عبر التاريخ وحتى الوقت الحالي.
وفى عصرنا الحديث، حسب نظرية الردع المتبادل من خلال قدرة التدمير الكلى للطرفين المتحاربين لبعضهما البعض، فإن الدول التى تمتلك سلاحًا نوويا ستلجأ للردع المتبادل، وبالتالى فهى تدرك أن الصراع سيؤدى إلى زوال الدولتين، وبالتالى لا تقيم أى حروب. وهى نظرية خاطئة لأن بعض الدول النووية تدخل حروبا بالفعل دون استخدام السلاح النووي، وأيضا هناك بعض الدول النووية تدخل حروبًا غير مباشرة تقيمها هذه الدول الكبرى بالوكالة عبر دول وسيطة. ومع أن النظرية العامة للردع المتبادل لا تؤدى إلى السلام الدائم، فإنها ساهمت نسبيا فى تحقيق السلام المؤقت بين بعض الدول، وقد ازدهرت بعد الحرب العالمية الثانية فى عصرنا الحديث فى الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية.
أما النظرية الشيوعية عن السلام العالمى فهى نظرية حالمة، فعلى الرغم من أن منهج ماركس يقوم على الديالكتيك المادى والتاريخى الذى يجعل الواقع هو أساس الفكر، فإنه كان حالما فى توقعاته المستقبلية، حيث يعتقد ماركس أنه سوف ينتهى الصراع بين الطبقة البرجوازية التى تملك المال ووسائل الإنتاج والسلطة، وطبقة العمال الكادحة،بنجاح طبقة العمال فى هزيمة البرجوازية والقضاء على الملكية الخاصة، ومن ثم الوصول إلى الانتصار النهائي، وعندئذ فإن العالم سوف تحكمه منظمات العمال ومعها يسود السلام فى العالم! ان هذا تصور حالم، لأنه لا يمكن إلغاء طبقة لصالح طبقة أخري، ومن المستحيل قيام أى مجتمع على طبقة واحدة، فسوف تظل الطبقات المتعددة رغم اختلاف مسمياتها وخصائصها من عصر الى عصر، وسوف يستمر التفاعل والحراك بينها ديالكتيكيا، سواء بالتنافس السلمى أو الصراع العنيف، وبالتالى لا تؤدى النظرية الماركسية إلى تحقيق السلام العالمي.
كما انتشرت نظرية أخرى حول إمكانية تحقيق السلام فى العالم من خلال التجارة الحرة؛ فالدول التى لديها اكتفاء ذاتى لاتحتاج للدخول فى صراعات بسبب وجود حرية المقايضة، ووفق هذه النظرية فإن الشركات العابرة للقارات والتى تتحكم فى مراكز الصناعة سيكون من مصلحتها عدم إقامة أى حروب حتى لا تؤثر على مصالحها. هكذا يعتقد أنصار هذه النظرية، لكنها أغفلت ان من بين الشركات العابرة للقارات شركات تجارة الأسلحة العملاقة، والتى من مصلحتها الاقتصادية نشوب الحروب لترويج بضاعتها، ومن المعروف ان لهذه الشركات نفوذا ومصالح مشتركة مع بعض الحكومات النافذة والمؤثرة فى الوضع الدولي.
وهناك نظرية ذائعة تُسمى «سلام الديمقراطيات»، وتؤكد أنه لا يمكن أن تتحارب دولتان ديمقراطيتان مع بعضهما البعض. وهى مقولة تحمل فسادها فى ذاتها، فبعض الديمقراطيات المعاصرة تقوم بحروب ضد دول ديمقراطية أخرى لتحقيق مصالح اقتصادية، تحت لواء نشر الديمقراطية! بل إن معظم الحروب المدمرة يشتعل فتيلها فى العديد من مناطق العالم نتيجة تدخل دول ديمقراطية كبرى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية عامة والاقتصادية خاصة.
ان معظم أسباب الحروب تتعلق بالصراعات الاقتصادية او العقائدية، وحل الصراعات العقائدية لا يشترط ان يتم بتخلى مجموعة عن عقائدها لصالح مجموعة أخرى، بل بتنمية تجارب العيش المشترك والإيمان بالتنوع والتعددية. ومشاكل الاقتصاد يمكن ان تحل عن طريق توفير مجموعة من الآليات الاقتصادية التى يمكنها المساعدة فى تحقيق وحدة الدول، مثل وجود منظومة من الآليات العادلة والشفافة، والأنظمة الاقتصادية المنصفة، والاقتصاد الرقمى المنضبط،والآليات القانونية والمصرفية، والتى يمكنها أن تجمع الدول تحت مظلة اقتصادية واحدة، ويمكن حدوثها على المستوى العالمى فى ظل منظومة من الشروط نرجو أن نوضحها فى المقال القادم إن شاء الله.
——————
أستاذ فلسفة الدين – رئيس جامعة القاهرة
عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية