أميركا والصين تستعدان لحرب كبرى تستمر لسنوات.. فلمن ستكون الغلبة؟
أميركا والصين تستعدان لحرب كبرى تستمر لسنوات.. فلمن ستكون الغلبة؟
مقدمة الترجمة:
يتبنى أندرو كرِبينيفيتش، الباحث في معهد هَدْسون ومركز الأمن الأميركي الجديد، وجهة النظر العسكرية الأميركية في هذه المقالة المنشورة في مجلة فورين أفيرز الأميركية. ويحاول فيها أن يتنبأ بالإستراتيجيات الحربية التي من المُمكن أن ينتهجها الأميركيون عند دخول حرب طويلة مع الصين خلال السنوات القليلة القادمة.
نص الترجمة:
على مدى العقد الماضي، تحول احتمال شن عدوان عسكري صيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من كونه مجرد فكرة افتراضية إلى موضوع يخضع الآن للنقاش والتحليل بجدية داخل غرف التخطيط العسكري للولايات المتحدة. لقد تمكَّن الزعيم الصيني شي جين بينغ من تسريع وتيرة بناء القدرات العسكرية لبلاده في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو ما أدى إلى تصاعد التوترات التي تعود جزئيا إلى إصرار الصين على التوغل في المياه البحرية لدول حليفة للولايات المتحدة وشركاء أمنيين رئيسيين لها في المنطقة مثل اليابان والفلبين وتايوان. وقد أكدَّ شي جين بينغ مرارا وتكرارا ما يراوده من توقٍ لإعادة توحيد تايوان مع الصين رافضا التخلي عن استخدام القوة لتحقيق مآربه. ومع انشغال الولايات المتحدة بالحروب الكبرى في أوروبا والشرق الأوسط، يظل هناك هاجس يهدد صفاء سريرة بعض المسؤولين في واشنطن، وهو احتمال استغلال الصين فرصة انشغال الولايات المتحدة لتحقيق بعض طموحاتها بشن عملية عسكرية قبل أن يتمكن الغرب من الرد.
ونظرا إلى أن تايوان هي نقطة الاشتعال التي تؤجج الصراع بين القوتين، قدَّم الإستراتيجيون الأميركيون عدة نظريات حول كيفية حدوث مثل هذا الهجوم وما ستؤول إليه الأمور. ويشير السيناريو الأول إلى احتمال أن تشن الصين غزوا لتايوان وتجعله “أمرا واقعا”، وذلك بشن الجيش الصيني غارات جوية وهجمات صاروخية على القوات التايوانية والقوات الأميركية القريبة، في حين يلجأ (الجيش الصيني) إلى طرق للتشويش على الإشارات والاتصالات واستخدام الهجمات السيبرانية لتعطيل القدرة على التنسيق والرد السريع من القوات المدافعة عن الجزيرة. إذا نجحت هذه العمليات وغيرها من الإجراءات الداعمة، فقد تمكِّن القوات الصينية من السيطرة بسرعة على تايوان.
أما السيناريو الثاني فيفترض أن الولايات المتحدة ستقود تحالفا لصد الهجوم الصيني على تايوان باستخدام الألغام البحرية والصواريخ المضادة للسفن والغواصات والغواصات المُسيَّرة تحت الماء لمنع الجيش الصيني من السيطرة على المياه المحيطة التي تحتاج إليها الصين لتنفيذ غزو ناجح. ومن جهة أخرى، ستحاول قوات الدفاع الجوي التابعة للتحالف منع الصين من توفير الغطاء الجوي الضروري لدعم جيشها، في حين تُعطِّل الحرب الإلكترونية والسيبرانية جهود الصين في التحكم بالاتصالات داخل ساحة المعركة وما حولها. وفي أفضل الأحوال، ستتمكن هذه الدفاعات القوية من دفع الصين إلى وقف هجومها والسعي إلى السلام.
ولكن القلق المتزايد الذي يقض مضاجع معظم الإستراتيجيين ينبع في الأساس من الاحتمال الثالث والأكثر كارثية، وهو اندلاع حرب مباشرة بين الولايات المتحدة والصين، اللتيْن تمتلك كل منهما أسلحة نووية. في سيناريو كهذا، يتصور بعض المختصين أن الحرب المباشرة بين القوتين العظميين قد تؤدي إلى تصعيد جامح يخرج عن نطاق السيطرة. فعندما يبدأ الهجوم الأول أو يندلع نزاع مسلح، سيسعى أحد الطرفين أو كلاهما إلى تحقيق ميزة حاسمة أو منع حدوث انتكاسة شديدة باستخدام القوة المُفرطة. وحتى لو تمَّ هذا الاستخدام للقوة بطرق تقليدية، فإنه قد يثير غضب الخصم ويستفزه ليدفعه في النهاية إلى استخدام الأسلحة النووية، مُطلِقا العنان لحرب كارثية. ولأن جميع هذه السيناريوهات منطقية ومحتمل حدوثها، يجدر بصناع القرار في الولايات المتحدة أن يأخذوها على محمل الجد ويفكروا في كيفية التعامل معها.
ومع ذلك، ثمة احتمال مختلف تماما وأقرب إلى الواقع، وهو اندلاع حرب تقليدية طويلة الأمد بين الصين وتحالف بقيادة الولايات المتحدة. ورغم أن صراعا كهذا ستكون نتائجه أقل تدميرا من الحرب النووية، فإنه مع ذلك سيفرض تكاليف باهظة على الطرفين قد تمتد إلى مساحات جغرافية شاسعة ويتضمن أنواعا من الحروب لا يتمتع فيها أي منهما بالخبرة الكافية. بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الديمقراطيين، فإن حربا طويلة مع الصين قد تمثل الاختبار الأهم والأكثر تحديا في عصرنا الحالي.
معارك بلا أسلحة
إن الصراع العسكري بين الصين والولايات المتحدة سيكون أول حرب بين القوى العظمى منذ الحرب العالمية الثانية، وأول حرب بين قوتين نوويتين عظميين على الإطلاق. ونظرا إلى أن المنطقة المعنية بالصراع، وهي شرق آسيا، تضم ثلاث دول متقدمة تكنولوجيا وديمقراطيا واقتصاديا، وهي اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وتُعتبر جميعها من حلفاء أو شركاء الولايات المتحدة، فإن مثل هذه الحرب ستخلِّف وراءها أخطارًا جسيمة. فبمجرد بدء القتال، سيغدو من الصعب للغاية على أي من الجانبين التراجع، وليس واضحا ما إذا كان الصراع سيؤدي إلى تصعيد نووي.
وكما كان الحال مع الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة في أواخر القرن العشرين، تستطيع كلّ من الصين والولايات المتحدة حاليا تدمير الأخرى في غضون ساعات باستخدام الأسلحة النووية، لكنهما لا تفعلان ذلك لما ينطوي عليه الأمر من أخطار عالية قد تؤدي إلى تدميرهما ذاتيا. فقرار كهذا قد يستفز الخصم لشن هجوم نووي مضاد، أو ما يُعرف بـ”الضربة الثانية” أو “التدمير المتبادل المؤكد” (MAD). فمثلا خلال الحرب الباردة، كان الخوف من تأجيج تبادل نووي يمثل حافزا قويا لموسكو وواشنطن كي تتجنَّبا أي مواجهة عسكرية مباشرة.
وبطبيعة الحال، يظهر الفرق الواضح بين توازن القوى النووية بين بكين وواشنطن، والتوازن السابق بين موسكو وواشنطن أثناء الحرب الباردة، إذ حققت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي توازنا نوويا تقريبيا على مستوى القوات آنذاك. أما الآن، فإن حجم الترسانة النووية الصينية يُعَد جزءا صغيرا مقارنة بحجم ترسانة الولايات المتحدة، إلا أن بكين تسعى إلى التوسع فيها بشكل كبير من أجل الوصول إلى مستوى ترسانة الأسلحة النووية الإستراتيجية الأميركية في العقد المقبل. ولكن حجم ترسانة الأسلحة النووية الصينية كافٍ لتنفيذ ضربة انتقامية للولايات المتحدة إذا هاجمت الصين، وهو ما سيؤدي بالتأكيد إلى تدمير متبادل.
ومع ذلك، توجد أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الحرب بين الولايات المتحدة والصين لن تؤول إلى تصعيد نووي. فعلى مدى أكثر من سبعة عقود من الصراعات منذ الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك العديد من الصراعات التي شملت قوة نووية واحدة على الأقل، كانت الأسلحة النووية غائبة غيابا ملحوظا عن المشهد. ففي أثناء الحرب الباردة، انخرطت القوتان النوويتان (أميركا والاتحاد السوفييتي) في حروب بالوكالة (وهي حروب تستخدم فيها القوى المتحاربة أطرافا أخرى للقتال بدلا عنها)*، ووقعت الصراعات في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وأخذت الحروب طابعا تقليديا رغم التكاليف البشرية والعسكرية الباهظة التي تكبدها من شارك فيها. وحتى في الحروب التي كان فيها طرف واحد هو الذي يمتلك أسلحة نووية، فقد امتنع هذا الطرف عن استغلال تفوقه. فمثلا خاضت الولايات المتحدة حروبا دامية وطويلة الأمد في كوريا وفيتنام، لكنها امتنعت عن استخدام ورقتها النووية الرابحة. والأمر ذاته ينطبق على روسيا التي لم تلجأ إلى قوتها النووية في حربها مع أوكرانيا رغم أن الصراع جاوز عامه الثاني وكبَّد روسيا بالفعل خسائر فادحة من الدماء والمال.
في السياق ذاته، لا ينبغي أن يكون ضبط النفس في استخدام الأسلحة النووية مُفاجئا. فخلال الحرب الباردة، أدّى احتمال نشوب صراع طويل بدون أسلحة نووية دورا هاما في التخطيط الإستراتيجي لكلا الجانبين. وهكذا، لم يتناول الفكر الأميركي والسوفيتي التهديد بالتصعيد النووي فحسب، بل تناول أيضا احتمال نشوب حرب تقليدية طويلة الأمد. ومن أجل الاستعداد لمثل هذا النوع من الحروب وإثناء الطرف الآخر عن اعتقاد أنه قادر على الفوز في مثل هذا الصراع، عملت كل من القوتين العظميين على تخزين كميات كبيرة من المعدات العسكرية الفائضة والمواد الخام الأساسية، إذ دشَّنت الولايات المتحدة أسطولا من الطائرات بقاعدة “ديفيس مونثان” الجوية بولاية أريزونا جنوب غربي الولايات المتحدة، وهي بمثابة مخزن مترامي الأطراف للطائرات العسكرية، كما دشَّنت أيضا “أسطولا بحريا في وضع التجميد”، وجميعها كانت احتياطيات كبيرة من الطائرات والسفن المتقاعدة التي خرجت من الخدمة إلا أنه كان بإمكانهم تعبئتها واستخدامها حسب الحاجة.
على الجانب الآخر، جمع السوفييت كميات هائلة من الذخائر الاحتياطية، إلى جانب الآلاف من الدبابات والطائرات وأنظمة الدفاع الجوي، وغيرها من الأسلحة لدعم العمليات القتالية المستمرة. وكانت الاستعدادات التي تجري لحالة الحرب بين الجانبين تعتمد على فرضية أن الحرب قد تستمر مدة طويلة دون أن تؤدي بالضرورة إلى حرب نووية كارثية. وفي حالة نشوب صراع مسلح بين الصين والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، سيكون لدى الجانبين مصلحة قوية في تجنب التصعيد الجامح والبحث عن طرق أخرى للقتال. فاستخدام الأسلحة النووية سيتسبب في دمار ينسحق تحت وطأته كلا الجانبين، ومن ثمَّ يمكن لهذا الخوف من الدمار المتبادل أن يُسبب رعبا كافيا يمنع كليهما من اللجوء إلى الأسلحة النووية. ومن هذا المنطلق، فإن فهم ما قد يبدو عليه الصراع بين القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين وكيفية تطوره أمر حاسم اليوم.
أسباب القتال
ثمَّة طرق عديدة يمكن أن تندلع بها حرب بين الصين والولايات المتحدة. نظرا إلى طموح الصين في الهيمنة على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فإن مثل هذه الحرب ستشمل على الأرجح ما يسمى بسلسلة الجزر الأولى، وهي سلسلة طويلة من الأرخبيلات في المحيط الهادئ تمتد من جزر كوريل شمال اليابان وصولا إلى جزر ريوكيو، ثم تايوان والفلبين، ثم أجزاء من إندونيسيا. وكما زعم كثيرون في واشنطن، فإن تايوان هي الهدف الأوضح للصين، نظرا لموقع الجزيرة الإستراتيجي بين اليابان والفلبين، ودورها الرئيسي في الاقتصاد العالمي، وكونها هدفا رئيسيا من أهداف الصين التوسعية (فضلا عن كون بكين تعتبرها جزءا لا يتجزأ من أراضيها)*. وبالفعل ظهر نشاط المؤسسة العسكرية الصينية على نحو متزايد في مضيق تايوان، كما حشد الجيش الصيني أكبر تجمع لقواته على الجانب الآخر للجزيرة. وفي حالة شن هجوم صيني على تايوان، ستضطر الولايات المتحدة إلى الدفاع عن الجزيرة، وإلا عرَّضت نفسها لخطر أن تميل الدول المحايدة، بل حلفاؤها أنفسهم، للتوصل إلى تسوية مع بكين لاحتوائها.
ومع ذلك، فإن مضيق تايوان ليس المكان الوحيد الذي يمكن أن تبدأ منه شرارة الحرب بين الصين والولايات المتحدة. فقد واصلت الصين توغلها في المجال الجوي الياباني وأعمالها الاستفزازية في المناطق الاقتصادية الخالصة لكل من الفلبين وفيتنام، وهو ما زاد من احتمال وقوع حادث يُشعِل الحرب. أضف إلى ذلك التوترات التي لا تزال مرتفعة بين الكوريتيْن الشمالية والجنوبية. ولذا، فإذا اندلعت المعارك في شبه الجزيرة الكورية، فقد ترسل الولايات المتحدة تعزيزات إلى هناك، فيحفِّز ذلك بكين على استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب إستراتيجية أو تحقيق أهدافها في مناطق أخرى على طول سلسلة الجزر الأولى.
وقد تندلع الصراعات في منطقة أخرى مثل الهند، فعلى مدار العقد الماضي، تصادمت الصين مع الهند على طول حدودهما المشتركة في عدة مناسبات. وباعتبار أن الهند عضو في الحوار الأمني الرباعي، الذي يضم أيضا أستراليا واليابان والولايات المتحدة، فإن أي عدوان صيني على الهند، ستتدخل فيه الولايات المتحدة للدفاع عن الهند لوجود مصلحة قوية في الدفاع عن قوة عسكرية كبرى وشريكة تُعد كذلك واحدة من أكبر الدول الديمقراطية في العالم.
باختصار، إذا اندلعت الحرب في أي من هذه الأماكن، فقد تؤدي إلى انخراط الصين والولايات المتحدة في صراع مباشر. وإذا حدث ذلك، فمن غير المرجح أن ينتهي الصراع بسرعة كما قد يُخيل إلينا. لنأخذ حالة تايوان على سبيل المثال، صحيح أن الصين قادرة على تنفيذ غزو سريع قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من الرد، إلا أن نتائج انتصار الصين ليست مضمونة. وكما اكتشفت روسيا حينما حاولت غزو أوكرانيا عام 2022، فإن الأمور لا تسير وفق هذا النسق اليسير، والإخضاع السريع لقوة أضعف ظاهريا قد يكون أصعب مما يبدو، ولذا يجدر بالصين أن تضع ذلك في اعتبارها.
ولكن حتى لو فشلت الأخيرة في السيطرة على تايوان بسرعة، فإنها قد تتجاوز الهزيمة الأولية وتستمر في القتال. ومثلما تمتلك الولايات المتحدة الإرادة والقدرة على مواصلة الصراع، فإن الصين أيضا قادرة على المضي قدما فيه. وبالنظر إلى أهمية النزاع والمصالح الكبيرة التي تتعلق به، فعلى الأغلب لن يتنازل أي من الجانبين بسهولة، ومن ثمَّ سيتوقف مسار الأحداث على ردود الدول الأخرى في المنطقة.
وعلى النقيض من الحرب الباردة التي كانت فيها القوتان العظميان مدعومتين بتحالفات صلبة، مثل حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وحلف وارسو التابع للاتحاد السوفيتي، فإن الوضع الحالي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبارة عن حالة من التشتُّت الجيوسياسي. فالصين ليست مدعومة بأي تحالفات رسمية رغم أنها تتمتع بعلاقات وثيقة مع كوريا الشمالية وباكستان وروسيا، في حين تتمتع الولايات المتحدة على الجانب الآخر بمجموعة من التحالفات والشراكات الثنائية في المنطقة على هيئة محاور متعددة تشكِّل واشنطن مركزها، وتشكل أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايوان وتايلاند أطرافها. وعلى عكس أعضاء حلف الناتو المُلزَمين بدفاع بعضهم عن بعض في حالة الهجوم على أيّ منهم، فإن هؤلاء الحلفاء الآسيويين ليس لديهم التزامات دفاعية مشتركة.
إذا وقع عدوان صيني داخل منطقة الهندي-الهادئ، فسيكون منطقيا الافتراض بأن أستراليا واليابان ستنضمان إلى الولايات المتحدة، نظرا لتحالفهما الوثيق معها وقدرتهما على توجيه قوة عسكرية كبيرة في الخارج، واهتمامهما القوي بالحفاظ على حرية وانفتاح منطقة الهندي-الهادئ. ومع ذلك، يمكن أن تؤثر دول أخرى ذات نفوذ كبير في طبيعة الحرب بين الصين والولايات المتحدة، ومن أهم هذه الدول الهند (التي ستقف إلى جانب الولايات المتحدة) وروسيا (التي ستقف إلى جانب الصين). وكما توسعت الحروب الآسيوية والأوروبية المحلية في أواخر الثلاثينيات لتصبح حروبا عالمية، فقد تتداخل الحرب مع الصراع في أوكرانيا أو النزاع في جنوب آسيا أو الحروب في الشرق الأوسط لتصبح في النهاية عصية على السيطرة.
إن ما يحدث في المراحل الأولى من الحرب قد يُحدد أيضا تشكيلة القوى على كل جانب، أي تحديد الدول أو الجهات التي تنضم إلى كل جانب من النزاع. فإذا حُكِم على أحد الأطراف بأنه المعتدي، فقد يؤدي تصرفه إلى إبعاد الدول أو الجهات التي تنظر إلى الصراع بمنظور أخلاقي عن الانضمام إليه، في حين قد تقرر الدول التي تنظر إلى الأمور من منظور الواقعية السياسية أن تتحالف مع الجانب الذي يحقق نجاحا مبكرا في المراحل الأولى من الحرب (كما فعلت إيطاليا في الحرب العالمية الثانية)، أو قد تقرر عدم الانضمام إلى شركائها الطبيعيين في حالة تعرض هؤلاء الشركاء لخسائر فادحة أو انتكاسات كبيرة. وبعد الدفاع الأولي الناجح لأوكرانيا ضد روسيا في ربيع عام 2022، احتشدت العديد من الدول الغربية، بما في ذلك دول محايدة مثل فنلندا والسويد، لدعم كييف. وبالمثل، إذا لم تتمكن الصين من تحقيق أهدافها بسرعة، فقد تقرر الدول المحايدة مثل إندونيسيا وسنغافورة وفيتنام الانضمام إلى الجهود المبذولة لمقاومة بكين.
أوامر ضبط النفس
بمجرد اندلاع الحرب، سيتعين على الصين والولايات المتحدة مواجهة التحديات التي تتعلق بخطورة ترسانتهما النووية. ورغم أن كلا الجانبين ستكون لديهما مصلحة قوية في تجنب التصعيد الكارثي، فإن احتمالًا كهذا لا يمكن استبعاده تماما خلال الحرب. سيواجه كل منهما تحدي إيجاد التوازن المناسب الذي يُمكنهما فيه استخدام القوة للحصول على ميزة دون أن يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب شاملة. ولهذا سيحتاج الجانبان إلى ممارسة درجة عالية من ضبط النفس والتروي. ولإبقاء الحرب محدودة، سيتعين على كل من واشنطن وبكين الاعتراف بالخطوط الحمراء للأخرى. ويمكن تعزيز الجهود نحو هذه الغاية إذا تمكن الجانبان من التواصل بوضوح ومصداقية حول خطوطهما الحمراء والعواقب التي قد تترتب على تجاوزها. ولكن ستظهر حتما مشكلات لأن ديناميات الحرب قد تُغيِّر هذه الحدود. فإذا أثبت الجيش الصيني على سبيل المثال قدرته على استخدام الصواريخ الباليستية التقليدية بفعالية لمهاجمة القواعد الجوية الأميركية في المنطقة، فلن تتردد واشنطن في ضرب مواقع الصواريخ الصينية، حتى مع خطر ضرب الصواريخ النووية المسلحة التي يحتفظ بها الجيش الصيني في الموقع ذاته.
علاوة على ذلك، قد يكون لدى أعضاء التحالف الأميركي اهتمامات ومصالح مختلفة قد تؤثر في تفاعلهم مع التحالف ومع مسار الحرب. لنتخيل مثلا سيناريو محتملًا للتصعيد في حال تعرَّضت الموانئ اليابانية لهجمات جوية وبحرية من قبل الجيش الصيني، بشكل يُهدد اقتصاد اليابان بالانهيار أو يقطع إمداداتها الغذائية. في ظل ظروف كهذه، قد تكون طوكيو على استعداد أكبر لتصعيد الحرب من شركائها في التحالف. وإذا امتلكت اليابان الوسائل اللازمة للتصعيد، فيمكنها القيام بذلك على نحو منفرد، لكن إذا افتقرت إليها ورفضت واشنطن التصعيد نيابة عنها، فقد تقرر طوكيو السعي إلى سلام منفصل مع بكين. ولتجنب هذا الوضع الحرج، يمكن للتحالف توجيه الدفاعات الجوية والصاروخية، وكذلك قوات مكافحة الألغام، إلى الموانئ اليابانية مُسبقا، في حين يمكن لليابان تخزين السلع الهامة المستوردة مثل الطعام والوقود.
ومع ذلك، تشير الحروب السابقة إلى أن الدول المتحاربة عادة ما تتمكن من تقييد أساليبها القتالية لمنع التصعيد غير الضروري. فمثلا بعد تدخل الصين في الحرب الكورية، كانت القوات الأميركية قادرة على شن ضربات جوية عبر الحدود في مقاطعة منشوريا، التي كانت تعتبر مركزا للقوات الصينية التي تهدد بالقضاء على القوات الأميركية في شبه الجزيرة. ورغم ذلك رفض الرئيس الأميركي هاري ترومان طلبات الهجوم على تلك الأهداف لتجنب إشعال حرب أوسع مع الاتحاد السوفيتي. وعلى نحو مماثل في فيتنام، أعلن قادة الولايات المتحدة أن ميناء هايفونغ الرئيسي في فيتنام الشمالية محظور على القوات الأميركية رغم أهميته الإستراتيجية. وقد خشي المسؤولون من أن تؤدي مثل هذه الهجمات إلى توسيع الصراع مع الصين أو الاتحاد السوفيتي.
في كلتا الحالتين، تمكن الجميع من الحفاظ على ضبط النفس حتى وسط حروب أودت بحياة الكثيرين. ونظرا للمخاطر الجسيمة المرتبطة بالصراع النووي، فسيكون منطقيا أن تتوخى كلّ من الصين والولايات المتحدة الحذر عند التفكير في تكثيف العمليات العسكرية. إن ضرورة تجنب التصعيد النووي لن تؤثر فقط في الأهداف والوسائل المستخدمة في العمليات العسكرية، بل قد تطيل المدة الزمنية للصراع أيضا، إذ تمتلك كلّ من الصين والولايات المتحدة موارد هائلة تمكنها من استمرار القتال لفترة طويلة.
حروب الإرادة
في حال وقوع حرب محدودة وممتدة مع الصين، سيكون أمام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ثلاث إستراتيجيات هي الإبادة والاستنزاف والإنهاك. ويمكن للتحالف تنفيذ هذه الإستراتيجيات منفردة أو معًا بالتوازي. تُركز إستراتيجية الإبادة على استخدام حدث واحد أو سلسلة سريعة من الأحداث لتدمير قدرة العدو أو إرادته في القتال، مثلما حدث في حملة الغزو السريع أو الحرب الخاطفة التي شنتها ألمانيا على فرنسا مدة ستة أسابيع عام 1940. وعلى النقيض من ذلك، تسعى إستراتيجية الاستنزاف إلى تقليل قدرة العدو على القتال من خلال إنهاك قواته العسكرية على مدى مدة طويلة حتى لا يتمكن بعد ذلك من تنظيم مقاومة فعَّالة. وكانت هذه هي الإستراتيجية الرئيسية التي تبناها الحلفاء ضد قوى المحور في الحرب العالمية الثانية. أما إستراتيجية الإنهاك، فتهدف إلى إنهاء قوات العدو بصورة غير مباشرة، مثل حجب إمداداته الحيوية عن طريق الحصار، وتدمير البنى التحتية الرئيسية للنقل، أو سحق المنشآت الصناعية الحيوية، وأقرب مثال على ذلك كانت الحرب الأهلية الأميركية.
في بداية الحرب الأهلية بين ولايات الشمال الأميركي “الاتحادية”، وولايات الجنوب “الكونفدرالية”، طمح الجانبان إلى نجاح إستراتيجية الإبادة والفوز في معركة حاسمة أو الاستيلاء على عاصمة العدو، ولكن تبين أن تحقيق مثل هذه الأحلام أقرب إلى المحال. وبمرور الوقت تبنت الكونفدرالية إستراتيجية إنهاك العدو على أمل تمديد الحرب إلى درجة استنفاد إرادة خصمها رغم القوة العسكرية الكبرى للاتحاد. وفي المقابل، وبالاعتماد على مزاياه في القوى البشرية، والقوة الصناعية، والقدرات العسكرية، جمع الشمال بين إستراتيجيتَي الاستنزاف والإنهاك. وفي تلك الفترة، سعى الشمال إلى تقليص الجيوش الكونفدرالية مباشرة عبر اتباع إستراتيجية الاستنزاف، وذلك بحصار الموانئ الكونفدرالية وتدمير المخازن العسكرية والبنية التحتية للنقل في الجنوب. وبهذه الطريقة، حرم الاتحاد الشمالي الكونفدرالية من الموارد والمُجندين اللازمين لتعويض خسائره القتالية مع إقناع الجنوبيين بأنهم لن يتمكنوا من تحقيق هدف الانشقاق.
في حالة نشوب حرب بين الصين والولايات المتحدة، فإن إستراتيجية الإبادة ستنطوي على أخطار لا يُمكن تحمُّلها على المدى الطويل. فنظرا إلى أن الطرفيْن يمتلكان السلاح النووي، فإن رغبة أحدهما في تدمير الآخر كليًّا بواسطة هجوم عسكري كاسح، سرعان ما ستتحوَّل إلى عملية انتحار مُتبادلة. وبالمثل، فإن هذا الخطر يحوم أيضا فوق إستراتيجية الاستنزاف، التي قد تنزلق إلى تصعيد نووي. ولذا، ستجد واشنطن وبكين الحافز لتبني إستراتيجية الإنهاك، التي ستكون مدعومة بالاستنزاف قدر الإمكان لتدمير قدرات العدو، ولكن الأهم هنا سيكون الرغبة في مواصلة القتال. ويهدف هذا النهج إلى فرض أقصى ضغط وتدمير على العدو بعيدا عن خطر الانزلاق إلى حرب كاملة.
عند تشكيل مثل هذه الإستراتيجيات، ستحتاج الصين والولايات المتحدة إلى التفكير بعناية في المكان الذي ستنطلق منه شرارة الحرب، مع مراعاة عدم تجاوز “الخطوط الحمراء” المحددة مُسبقا. وقد يتفق الطرفان مثلا على منح كلّ منهما الآخر مناطق آمنة في أراضيه، بما في ذلك المجال الجوي. ويعني ذلك أن كل جانب سيمسك عن استهداف الآخر مباشرة في هذه المناطق، مما يخفف من احتمال التصعيد العسكري المباشر بينهما. ولكن على الجانب الآخر، قد يسعى الطرفان إلى التصعيد الجغرافي، بحيث ينتشر الصراع إلى مناطق خارج سلسلة الجزر الأولى أو جنوب آسيا إلى مواقع أخرى يمكن لهما استعراض القوة العسكرية فيها. وقد يُعَد التصعيد في المجالات المرتبطة بالمشاعات العالمية مقبولا من الجانبين، ويمكن أن يشمل ذلك العمليات البحرية (بما في ذلك سطح البحر، وتحت البحر، وفي القاع)، فضلا عن الحرب في المجال السيبراني والفضاء. وقد يشن أحد الجانبين أيضا حربا أشد عدوانية على أراضي القوى الصغيرة المتحالفة مع الآخر، مثل الفلبين وتايوان.
في المراحل المبكرة من الحرب، قد تختلف أولوية كل طرف عن الطرف الآخر بالنسبة لأهدافه العسكرية. فمثلا قد يسعى الجيش الصيني إلى تحقيق نصر سريع في حين يركز التحالف الأميركي على بناء دفاع ناجح. وقد تكون الأهداف الاقتصادية، مثل الموانئ التجارية وسفن الشحن والبنية التحتية النفطية والغازية تحت الماء، ذات أولوية أقل في تلك المرحلة. ومع استمرار الحرب، سيسعى كل جانب إلى استنزاف قدرات الجانب الآخر بشدة عن طريق الحروب الاقتصادية والمعلوماتية. وقد تتضمن إجراءات تحقيق هذه الغاية حصار موانئ العدو وعمليات القرصنة التجارية ضد سفن الشحن. كما يمكن لأحد الجانبين فرض حصار معلوماتي على الآخر بقطع كابلات البيانات تحت سطح البحر وتعطيل الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، أو استخدام الهجمات السيبرانية لتدمير أو تشويه البيانات المركزية للبنية التحتية الحيوية للخصم.
هناك طرق أخرى محتملة يمكن للأطراف المتحاربة استخدامها للحفاظ على الحرب ضمن نطاق محدد دون توسع. فبدلا من استخدام وسائل الهجوم التي تسبب أضرارا دائمة، يمكن شن هجمات تسمح بإصلاح الأضرار بسهولة. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام أجهزة تشويش لحجب الإشارات المُرسلة وفتحها مرة أخرى بسهولة بدلا من تدمير محطة تحكم للأقمار الصناعية بصاروخ. ويمكن لهذا النوع من الهجمات أن يقلل من وتيرة تصعيد الحرب نتيجة لاستعادة الخدمة بسرعة نسبية بعد الهجوم، وهو ما يقلل من الحاجة إلى ردّ قويّ أو تصعيد من الطرف المُستهدَف. والأمر ذاته ينطبق على العمليات البحرية تحت الماء التي يمكن شنها لوقف محطات ضخ النفط والغاز في البحار بدلا من تدميرها تماما، ويمكن أيضا إطلاق عمليات بحرية للاستيلاء على سفن شحن العدو واحتجازها بدلا من إغراقها. وتستطيع إجراءات كهذه أن تحافظ على الأصول الرئيسية للعدو باعتبارها ورقة مساومة يمكن استغلالها للتفاوض على نهاية مُرضية للحرب.
أما إنهاء الصراع فسيكون تحديا مهما بحد ذاته. فمع عدم وجود فرصة للانتصار العسكري الحاسم لأي طرف، قد تستمر مثل هذه الحرب لعدة سنوات أو أكثر، وتنتهي فقط عندما يختار كلا الطرفين مسار التفاوض عوضا عن خطر الإبادة، أو السلام غير المريح عوضا عن الحرب المكلفة، التي ستبدو حينها بلا نهاية في الأفق.
حرب السلاحف.. لا الأرانب
لتحقيق النصر في حرب مع الصين، ستحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها في التحالف إلى إستراتيجية لا تمكنهم فقط من حرمان بكين من تحقيق نصر سريع، وإنما أيضا الحفاظ على صمودهم في حرب طويلة الأمد. في الوقت الحالي، يظل الهدف الأول تحديا هائلا. إذ يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها -فضلا عن شركائها المحتملين مثل الهند وإندونيسيا وسنغافورة وفيتنام- يفتقرون إلى إستراتيجية مترابطة لردع أو هزيمة أي هجوم صيني. وفي حالة احتلال الصين للجزر الرئيسية على طول سلسلة الجزر الأولى، ستواجه الولايات المتحدة وشركاؤها صعوبة شديدة لاستعادتها بتكلفة مقبولة. وإذا نجحت الصين في ذلك، فقد تقترح وقفا فوريا لإطلاق النار بوصفه وسيلة لتعزيز مكاسبها. وقد يرى بعض أعضاء التحالف الأميركي أن هذا العرض بديل جذاب عن معركة مكلِّفة تنطوي على أخطار تصعيد كارثية.
ولذا على الولايات المتحدة أن تعطي الأولوية للتفاوض على اتفاقيات لنشر المزيد من القوات الأميركية والأسلحة على طول سلسلة الجزر الأولى، كما يجدر بأعضاء التحالف البدء في تعزيز قدراتهم الدفاعية على طول السلسلة. وفي الوقت الراهن، يمكن لقدرات الولايات المتحدة مثل الأنظمة الفضائية والقاذفات البعيدة المدى والأسلحة السيبرانية، أن تساعد على سد الفجوة. في السبعينيات وأوائل الثمانينيات، طوَّر الجيش الأميركي إستراتيجيات وخططًا حربية للرد على احتمال الغزو السوفيتي لأوروبا الغربية.
لقد تصوَّرت إحدى هذه الإستراتيجيات المعروفة باسم المعركة الأرضية الجوية “AirLand Battle”، أن الجيش والقوات الجوية سيهزمان “موجات” متتالية من قوات العدو المتقدمة من الاتحاد السوفيتي عبر أوروبا الشرقية. ووفقا لهذا السيناريو، كان على الجيش الأميركي أن يسعى إلى إيقاف قوات الخطوط الأمامية السوفيتية، في الوقت الذي تبدأ فيه مجموعة كاملة من القوات الجوية الأميركية والبرية، مثل الطائرات المقاتلة والصواريخ والمدفعية الصاروخية، في مهاجمة موجات العدو الثانية والثالثة التي تتقدم نحو حدود الناتو. وفي غضون ذلك، كان من المفترض أن تستخدم البحرية الأميركية غواصات هجومية للتقدم إلى ما بعد الفجوات البحرية بين جزيرة جرينلاند وأيسلندا وبريطانيا لحماية سفن الحلفاء التي تتحرك عبر المحيط الأطلسي من الغواصات السوفيتية. ثم تنتشر حاملات الطائرات الأميركية إلى شمال المحيط الأطلسي بأجنحتها الجوية القتالية لهزيمة الطائرات السوفيتية. ولمنع السوفيت من استخدام النرويج نقطة انطلاق، استعد سلاح البحرية الأميركي للانتشار بسرعة في ذلك البلد وتأمين مطاراته.
وقد استندت هذه الإستراتيجيات العسكرية التي وضعتها الولايات المتحدة في السابق على دراسة دقيقة ومنهجية لقدرات وإستراتيجية الاتحاد السوفيتي، بما في ذلك خطط الحرب وتوزيع القوات والمفاهيم العملية ومعدل التحرك المتوقع. ولم تقتصر هذه الإستراتيجيات على توجيه التفكير والتخطيط العسكري للولايات المتحدة وحلفائها فحسب، بل ساعدت أيضا على تحديد برنامج الدفاع وأولويات الميزانية بصورة واضحة. وكان الغرض الرئيسي من هذه الجهود هو إقناع موسكو بأنه لا يوجد مسار جذاب يمكن أن تسلكه لشن حرب عدوانية ناجحة على الديمقراطيات الغربية. ورغم ذلك فلا يوجد مثل هذه الخطط اليوم فيما يتعلق بالصين.
ومن أجل تطوير مجموعة متكافئة من مفاهيم الحرب لمواجهة صراع كبير مع الصين، يجب على الولايات المتحدة البدء في دراسة مجموعة من السيناريوهات الممكنة للعدوان الصيني، ولا بد لهذه السيناريوهات أن تشمل نقاط توتر مختلفة على سلسلة الجزر الأولى وما بعدها، وليس فقط تلك المتعلقة بتايوان. ويمكن أن تشكِّل هذه السيناريوهات أساسا لتقييم وتحسين الخطط الدفاعية الواعدة عبر المناورات الحربية وعمليات المحاكاة والتدريبات الميدانية. ومع ذلك، سيحتاج الإستراتيجيون الأميركيون أيضا إلى مراعاة الموارد الهائلة المطلوبة لاستمرار الحرب عدة أشهر. وكما كشفت الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها يفتقرون إلى القدرة على زيادة إنتاج الذخائر. وينطبق الشيء ذاته على القدرة الإنتاجية للأنظمة العسكرية الكبرى، مثل الدبابات والطائرات والسفن والمدفعية. ولمعالجة نقطة الضعف الحرجة هذه، على واشنطن وشركائها إعادة تنشيط قواعدهم الصناعية حتى يتمكنوا من توفير الأنظمة والذخائر اللازمة لاستمرار الحرب ما دام ذلك ضروريا.
ومن المرجح أيضا أن تتسبب الحرب المطولة في تكاليف باهظة على مستوى التجارة العالمية، والبنية التحتية للنقل والطاقة، وشبكات الاتصالات، كما ستفرض ضغوطا مريعة على السكان في العديد من أنحاء العالم. وحتى لو تجنب الطرفان كارثة نووية، فإن حجم الدمار ونطاقه سيكون أكبر بكثير مما عاشه الشعب الأميركي وشعوب حلفائه. قد يتمتع الصينيون بمزايا كبيرة في هذا الصدد، فمع التعداد السكاني الهائل في الصين، والقيادة الاستبدادية، والتسامح التاريخي في تحمل الصعاب والخسائر الفادحة، أو بمعنى آخر قدرتهم على تجرع المرارة بصبر، قد يكون سكان الصين مُجهزين على نحو أفضل للاستمرار في حرب طويلة الأمد. وفي ظل هذه الظروف، فإن قدرة التحالف على الحفاظ على دعم الشعب لجهود الحرب، إلى جانب الاستعداد للتضحية، تصبح أمرا حاسما لنجاحه. ولذا يحتاج قادة واشنطن والعواصم الحليفة إلى إقناع شعوبهم بضرورة تعزيز دفاعاتهم ودعمها في السلم والحرب إلى أن تتخلى الصين عن أهدافها من أجل الهيمنة.
ردع جديد من نوعِه
ذات مرة، قال المارشال الألماني هيلموت فون مولتكه إن الحروب غالبا ما تسلك أحد مسارات ثلاثة، لكنها تنحرف عادة نحو مسار رابع غير متوقع. فيما يتعلق بالصين، من الصعب التنبؤ بالوقت أو المكان الذي ستنطلق منه شرارة الحرب، أو المسار الذي ستتخذه بمجرد بدئها. ومع ذلك، ثمة العديد من الأسباب التي تدعو إلى الاعتقاد بأن مثل هذا الصراع قد يظل محدودا ويستمر مدة أطول بكثير مما يُفترض عموما.
لهذا من الضروري أن تبدأ الولايات المتحدة وحلفاؤها في التفكير في تداعيات حرب كبرى بين القوى العظمى قد تظل دون مستوى التصعيد النووي وتستمر عدة أشهر أو سنوات؛ مما يترتب عليه تكاليف شاملة على اقتصاداتهم وبنيتهم التحتية ورفاهية مواطنيهم. وفي نهاية المطاف، عليهم إقناع بكين بأن لديهم الموارد والقوة اللازمة للفوز في هذه الحرب الطويلة. وإذا لم يفعلوا ذلك، فقد تستنتج الصين أن استخدام القوة العسكرية لتحقيق مصالحها في آسيا والمحيط الهادئ فرصة جيدة ترجح كفتها أمام الأخطار الجسيمة التي تنطوي عليها.