رادار 360 _ جمال خوجلي
أفرزت الحرب في السودان واقعًا جديدًا واستقطابًا حادًا ليس فقط بين الفرقاء السياسيين في الداخل، ولا بين المتقاتلين: القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ولا فقط بين الفاعلين الإقليميين من حولنا وجوارنا، لكن امتد الاستقطاب والتنازع ليصبح السودان مع بداية العام الثاني للحرب مركزًا للنزاع بين القوى العالمية المحتشدة في الإقليم حولنا.
استفادت قوات الدعم السريع من مؤسِّسها وطالب حمايتها عمر البشير، وحاضنتها أجهزة أمن الإنقاذ ونافذي المؤتمر الوطني، ومن تراكم الدعم العسكري واللوجيستي المكثّف أواخر سنوات الإنقاذ، وخلال العامين ما بين أغسطس/آب 2019م وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2021م من حكم تحالف الحرية والتغيير والعسكر، تمددت القوة العسكرية للدعم السريع بمختلف الأسلحة في غالب مدن السودان.
صنعت قوات الدعم السريع ما يمكن تسميته بالدولة الموازية داخل السودان بموافقة البرهان لاعتبارات تضمن البقاء له في رأس السلطة، وتمددت علاقة الدعم السريع الخارجية لتشمل فاغنر في أقصى الشرق إضافة لداعمين آخرين لتقسيم السودان والاستحواذ على موارده، في حين كان هدف بعض الدول الأوروبية في علاقتها بالدعم السريع هو قيام قواتها بمحاربة خطوط الهجرة نحو أوروبا.
مقابل ذلك تراجعت قدرات الجيش السوداني وتوقف تجنيد القوات البرية في صفوفه عمدًا بفعل الإنقاذ التي كانت تخشى في آخر سنواتها انقلاب الجيش عليها. تعاظُم قدرات الدعم السريع وانتشارها دفعها لتحديد زمان وأمكنة الانقلاب على الدولة السودانية، “دولة 56” كما يسمونها لتقوم على أنقاضها دولة المليشيات الجديدة بمختلف مسمياتها التي تبرز أحيانًا في ألسنة قادتها ويستَحُون منها أحيانًا أخرى. الخارج الذي خطط من قبل لتقسيم السودان وتمدّد حروبه وجد فيها مخلب القط لتنفيذ مآربه.
اندلعت الحرب واحتلت الدعم السريع منازل وأعيان المواطنين في الخرطوم، ودارفور، والجزيرة، تشرد أهل السودان الذين نجوا من جحيمها، وفقد عشرات الآلاف أرواحهم في مختلف مدنه، بشهادة المنظمات الأممية. لقد تم نشر الفساد بمختلف وسائله، واغتصبت النساء، وسلبت ونهبت الممتلكات.
رُوعت ولاية الجزيرة من قبل الدعم السريع التي استباحت مناطق واسعة منها. واستهدفت المناطق الزراعية رغم خلوها التام من أي مركز أو وحدة عسكرية.
تقلّبت الأوضاع العسكرية خلال العام الأول للحرب. استفادت الدعم السريع من مناصريها السياسيين الذين تشكلوا ما بين رموز للنظام السابق، ومجموعاتٍ من قوى الحرية والتغيير التي منّت نفسها بالعودة لكرسي السلطة تحت حماية الدعم السريع، وبعضٍ من قادة ورموز قبائل تحلم بالهيمنة على حكم السودان ووصله بمجموعاتهم العرقية والإثنية.
الجيش السوداني الخارج من إضعاف الإنقاذ له، امتصّ الصدمة خلال الشهور الأولى، وتحسّس مواطن وجوده ليكتشف إحاطة الدعم السريع بعدد من مواقعه. أعاد التموضع واستفاد من النقمة الشعبية المتزايدة على الدعم السريع. انتبه الجيش السوداني إلى ضرورة إحداث توازن دعم خارجي خاصة لإمدادات السلاح، فدخلت المسيّرات وعززت سلاح الطيران، وتمددت علاقات الجيش الخارجية عسكريًا.
عام التدخل الخارجي المكشوف
أخذت الحرب مع بداية عامها الثاني منحى جديدًا يعكس بوضوح التدخل الخارجي المكشوف في الحرب إمدادًا بالسلاح والعتاد والمسيّرات. لم تعد تخفي الدعم السريع الإمدادات التي تردها في وضح النهار عبر مطار مخصص لذلك في تشاد، كما لم يعد الجيش يخفي علاقاته العسكرية مع إيران، وروسيا. أصبح السودان مع بداية العام الثاني للحرب مسرحًا مفتوحًا للصراع العالمي، والموقع الجغرافي بأسره قد ازدحم بمعطيات جديدة:
تمدّدت روسيا بكثافة في وسط وغرب أفريقيا، حاصرت الوجود الفرنسي وطردته من معاقله، فمن أفريقيا الوسطى إلى النيجر وإلى بوركينا فاسو ومالي، تدحرج النفوذ الفرنسي تمامًا من المنطقة التي تعتبر واحدة من أغنى مناطق أفريقيا بالموارد الطبيعية، وتوالى خروج الوحدات العسكرية والشّركات الفرنسية تباعًا من تلك الدول التي بدأ يحضر على مسرح الأحداث فيها الدبّ الروسي والتنين الصيني.
الدعم الروسي عبر فاغنر للدعم السريع بالتدريب والتسليح سببه تراجع البرهان عن تخصيص قاعدة عسكرية لروسيا على البحر الأحمر، كما وعدهم البشير من قبل، لكن هذا الدعم لم يبلغ هدفه بسيطرة الدعم السريع على السلطة. المصالح المشتركة للطرفين أعادت الجيش السوداني وروسيا من جديد للتحالف، خاصة بعد انقلاب البرهان على شركائه في أكتوبر/تشرين الأول 2021م، ليحقق كل طرف مبتغاه. دعم روسي للجيش السوداني بالسلاح، مقابل إقامة القاعدة العسكرية الروسية على البحر الأحمر.
لو تحقق الدعم الروسي للجيش السوداني، فالغالب أن تُرجَّح كفته، وسيحقق ذلك أمنيات السودانيين الذين تشردوا بين الولايات والبلاد، ولكن الجيش المنتصر سيتمدد على حساب التحول الديمقراطي بدعم روسي، وسيعود السودان بسبب التدخل الروسي لمواجهة عقوبات غربية
التمدد الروسي – الصيني وسط وغرب أفريقيا، وخطوات الدب الروسي المتجه للتواجد العسكري على البحر الأحمر دفعا أميركا لإعادة ترتيب تموضعها في أفريقيا، فعمدت إلى كينيا كمدخل جديد إلى وسط وشرق أفريقيا بعين على السودان وإثيوبيا والصومال، وعين أخرى على باب المندب. جاء العرض الأميركي لكينيا الشهر الماضي بأن تكون حليفًا مميزًا من خارج الناتو، مع دعم مقدّر للطيران العسكري؛ بحجة الدعم والإسناد للجيش الكيني، ما عُدَّ مدخلًا لوجود عسكري أميركي كبير يتّخذ من كينيا مقرًّا له.
هذا المقرّ سيكون القاعدة الرئيسية للجنود الأميركيين الذين سيخرجون من معاقل قديمة في أفريقيا، خاصة النيجر التي سيغادرها الجنود الأميركيون في سبتمبر/أيلول (بعد أربعة أشهر). الوجود العسكري الأميركي سيتّخذ من منطقة واجير في الشمال الشرقي لكينيا قاعدة له، وهي منطقة الكهوف القديمة في منطقة التماس مع الصّومال.
حرب السودان نبهت إيران إلى إمكانية ترسيخ وجودها في البحر الأحمر؛ بتعزيز وجودها في السودان عبر دعم الجيش السوداني بالمسيرات. استجابت لطلب السودان، وبلا مقدمات انتقلت العلاقات السودانية – الإيرانية من حالة الخصومة التي أحدثتها الإنقاذ مع إيران إرضاءً للخليج إلى مورد أساسي للمسيرات للجيش السوداني حتى قبل أن يُعاد افتتاح السفارات بين البلدين. هذه لغة ومصالح الحرب والتمدد الذي تخشاه أميركا.
أيقن الجيش السوداني أنّ المخطط الأميركي يهدف إلى إضعافه بتواصل الحرب، اعتمادًا على تواصل إمدادات السلاح للدعم السريع والتي تعلم أميركا يقينًا كافة تفاصيلها، خاصة تلك التي تعبر تشاد وتسكت عنها حتى يتواصل نزيف الدم وتضعف الدولة وجيشها. في حال تقدُّم الدعم السريع واحتلالها مدينة أو ولاية تغض أميركا الطرف عن ذلك، بينما تدعو للتفاوض ووقف الحرب حال تقدّم الجيش.
ثروات السودان ظاهرًا وباطنًا وأراضيه الخصبة الممتدة الواسعة ونيله المعطاء، تغري التدخلات الخارجية حال تمزق جبهته الداخلية وضعف مؤسسات الدولة. ذلك ما آلت إليه الحال منذ السنوات العشر الأواخر “للإنقاذ”. التوجه الإنقاذي الأمني المتسلط قابله الرهان على الخارج والترتيب معه من عدد من الجماعات والأحزاب السياسية. تغلغل الخارج باستخباراته وأياديه مخترقًا مؤسسات الدولة مخططًا ومنفذًا لإسقاطها وتثبيت البديل.
القادم سيئ.. حتى مع انتصار الجيش
هكذا انفتحت المعطيات الجديدة للحرب في السودان على تدخلات عسكرية واضحة مع بداية العام الثاني للحرب، والذي يتوقع أن يشهد تحولات نوعية في إيقاعها:
الدعم الروسي للجيش السوداني إن تحقق، فالغالب أن تُرجَّح الكفة خاصة لصالح الجيش السوداني، ليس فقط بالإمدادات العسكرية للجيش، وإنما أيضًا بتحييد الحدود الغربية للسودان مع ليبيا حفتر والتي تساهم أيضًا في توريد المرتزقة للدعم السريع. سيؤثر الموقف بالتأكيد سلبًا على المدد الآخر الآتي من تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر.
سيكون ذلك محققًا لأمنيات السودانيين الذين تشردوا وسُلبت ممتلكاتهم ونزحوا بين الولايات والبلدات بل والخارج بالعودة لديارهم، بل ويكون منهم السند والدعم والتشجيع والاحتفال بنصر القوات المسلحة.
سيتمدد الجيش على حساب التحول الديمقراطي، إذ ستشعر قيادة الجيش أن ما بذلته من جهد تستحق عليه أن تظل مهيمنة، الأمر الذي يجد الدعم والتأييد من الروس الذين لا يحبذون الحكومات المدنية المنبثقة عن الديمقراطية. شيئًا فشيئًا سيحتاج الجيش لدعم سياسي لتعود من جديد صيغة الولاء المدني للعسكر.
تراجع الخيار الديمقراطي سيضرّ بمستقبل السودان، وسيعيد إنتاج أزمة الحرب من جديد. فقيادة الجيش الحالية وعلى رأسها البرهان هي التي مكنت للدعم السريع في السلطة، وفتحت لها المعسكرات، وشهدت تدريب وتخريج مجنديها ووافقت على استئثارها بالثروات وعلى رأسها الذهب، كل ذلك لتجلس على كرسي السلطة مبتعدة عن مقتضيات المرحلة الانتقالية، وهي إقامة الانتخابات ليقول الشعب كلمته ويحدد حكّامه.
كنتيجة للتدخل الروسي، سيواجه المجتمع السوداني عقوبات غربية تعيد من جديد العقوبات والمقاطعات الغربية للسودان في التسعينيات، وسيستغلّ الغرب كل أدواته حتى تلك الموجودة وسط القوى السياسية؛ لإجهاض تمدد النفوذ الروسي في السودان، ما سيفتح البلاد على صراع من نوع آخر.
المحيط الإقليمي سيراوح مكانه بين صراعات الكبار: روسيا وأميركا، والأخيرة يشغلها الوضع في فلسطين ما بين المطرقة والسندان، وعلى مقربة من الانتخابات حيث تزدحم الأجندة وتتطاول قبل همّ السودان. جيران السودان بدأ تأثير الحرب يتسرب إلى أوضاعهم الداخلية خاصة جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد. مصر ظلت على موقف واحد داعم للقوات المسلحة. ذلك هو حال السعودية وغالب الدول العربية.
القوى السياسية السودانية منقسمة بين مجموعة همها العودة للسلطة بأي ثمن، أو تحالف، تستوي في ذلك بعض قوى الحرية والتغيير والمؤتمر الوطني، ومجموعة أخرى مؤمنة بالخيار الديمقراطي، وضرورة إقامة الانتخابات. الصوت العالي الآن للمجموعة الأولى والتي تشد المشهد يمنة ويسرة. رهان بعض القوى السياسية على الخارج أضعف من تأثيرها على المشهد، وأفقدها المبادرة المطلوبة وتقديم الحلول للمشاكل. لا سبيل للسودان في أن يمضي إلى استقرار إلا بالتحول الديمقراطي والاحتكام للشعب في انتخابات حرة نزيهة ودولة يقودها المدنيون، ويحرس حدودها وأمنها جيش قومي قوي موحد، لا وجود لسلاح خارجه، وقوات أمنية وشرطية نظامية مهنية.
أما إن تنازل البرهان ومجموعته عن شهوة السلطة والحكم كما فعل سلفهم سوار الذهب، رحمه الله، واكتفوا بالمجلس العسكري الانتقالي بمهامه في حفظ حدود البلاد وبسط الأمن تمامًا في ربوعها، وتشاوروا مع القوى السياسية ليسلموا الحكومة الانتقالية للمدنيين، وتحدد مهامها بإقامة الانتخابات خلال أقصر فترة ممكنة، فعندها فقط سيَسلم السودان من عواقب النزاعات والتدخلات الخارجية.