من المعلوم أن الأبعاد الإستراتيجية لأي حدث فيها ما هو موضوعي، ولكن فيها أيضًا ما هو ذاتي. يعدّ الحدث في حد ذاته إستراتيجيًّا من حيث ميزان القوة ومن زاوية التداعيات التي أعقبته والاهتزازات التي تسبب فيها وسط السكون الذي كان يسبقه، وهذا ما حدث بالفعل، وتأكد خلال الأشهر الطويلة التي أعقبت 7 أكتوبر/تشرين الأول. لكن ذلك وحده ما كان له أن يستفز العقول للحديث عن أبعاد إستراتيجية، لولا صمود المقاومة في خنادق القتال، وحول طاولة المفاوضات السياسية. فكم من انتصار ميداني وُضع بأيدٍ مرتعشة وضعيفة فبُدّد وتحول إلى هزيمة نكراء.
قضية تحرر وطني
بل ما زاد في أهمية ما يحدث، أن المقاومة الفلسطينية تخوض حربًا ليست فقط ضد جيش العدوان الإسرائيلي، كما قد يتسلل إلى أعيننا من بعض الصور المتلفزة، بل ضد جحافل من خطوط الإمداد الأورو- أطلسية بآلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر، وحتى بالمعلومات الاستخباراتية والمساهمة العملياتية المباشرة.
وقبل ذلك وبعده، بتوفير غطاء سياسي يحاول أن يتلوَّن أخلاقيًّا بما يفضي لتبرير المجازر التي ترتكب باسم الدفاع عن الإنسانية ضد همجيةِ الفلسطينيين – المزعومةِ – الذين ليس من حقّهم أن يتمرّدوا على سلطات الاحتلال. لقد أسّس “طوفان الأقصى” لأبعاد ومنعرجات إستراتيجية ذات تأثيرات عميقة في المشهد الفلسطيني على عدّة مستويات، على النحو التالي:
المنعرج الإستراتيجي الأوّل الذي دشّنته أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، أنها أعادت القضية الفلسطينية لوضعها الطبيعي من حيث هي قضية تحرر وطني، لا يمكن تسويتها إلا بإزالة الاحتلال ومحو آثاره، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة. وما نشهده من حركة التضامن الدولي الرسمية والشعبية، تجاوز في أبعاده التعاطف الإنساني أمام مجازر الاحتلال، وإدانة ممارساته اللاإنسانية، إلى التعبير عن التمسّك بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة، وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك حق العودة.
ما حدث مثّل منعطفًا إستراتيجيًا؛ لأنّ الشعب الفلسطيني تعرّض قبل ذلك لمحاولة تحايل على حقوقه الثابتة تحت مسميات الاتفاقيات، وما نتج عنها من حملة لتسويق التطبيع في المنطقة. فلا دولة فلسطينية مستقلة، ولا حرمة لأماكن إسلامية مقدسة، ولا حق العودة؛ بل نزعوا عن القضية حتى بُعدها الإنساني، كما جرى من تضييق على “الأونروا” وغيرها من منظمات العمل الإنساني. بل ذهب العقل الإمبريالي وتوابعه إلى اعتبار القضية الفلسطينية عقبة أمام ازدهار بعض الدول في المنطقة، ما يستوجب التفلّت من أية مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية.
وحتى يكتمل وعينا بقوة المنحنى الإستراتيجي الذي أحدثه 7 أكتوبر/تشرين الأول، علينا أن نتذكّر المشهد الإقليمي خاصة، وما كان مجدولًا للمنطقة، قبيل هذا الحدث؛ ثم نتأمل جيدًا ما حدث بعد ذلك، لسياسات دولية تحاول أن تلملم بقايا انكساراتها، لتنقذ ما تبقى من مصالحها.
لقد حطّم صمود المقاومة والشعب الفلسطيني عامة ادعاء وغطرسة الاحتلال من أن القوة المادية والعسكرية وحدها قادرة على فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين. فالقوة المادية ما لم تكن دفاعًا عن حق عادل، لا تعدو كونها قوةَ تدمير وإفساد، كما تعد عنفًا غشومًا وعدوانًا همجيًا. فالقوّة لا تصنع الحق، وإنما القوة المجردة من الحق لا تمتلك المسوغات الأخلاقية التي تمكِّن من الدفاع عنها.
اهتزاز الثقة في المنظومة الدولية
المنعرج الإستراتيجي الثاني، تمثل في اهتزاز الثقة في المنظومة الدولية التي أنفقت القوى الغربية كثيرًا من أجل تشييدها والتحلّق حولها. فتورط الحكومات الغربية في الدفاع عن العنف المجرد من كل مبرر أخلاقي، لم ينجح في طمس الحقيقة السّافرة حول همجية جيش الاحتلال، مقابل نبل صمود الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة.
لا أحد باستطاعته أن يقدم مبررًا أخلاقيًا لمحاولة إبادة المجتمع الغزي، الذي قدّم حتى الآن أكثر من 2٪ من أبنائه وبناته ضحايا لهذا العدوان، وحوالي 5٪ من الجرحى، مع تدمير شامل يضاهي ما قام به الحلفاء من تدمير لبرلين في نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن الحق العادل بقوته الذاتية استطاع أن ينتصر على العنف غير العادل، رغم كل الإسناد السياسي الذي وجده في أروقة القرار الدولي. بل إن أيديولوجيا الديمقراطية الليبرالية التي طالما كانت تتباهى بالدفاع عن حقوق إنسانيّة متساوية للجميع، وتبشّر بعدالة إنسانية مُمَأْسسة على المستوى الدولي، قد سقطت رموزها الرسمية، ما سيدفع لمراجعات نظرية عميقة لدى النخب والشعوب على حد السواء، وتعطُّل جسور الثقة والتواصل التي تحاول القوى الغربية مدّها مع العالم العربي والإسلامي خاصّة.
سيتراجع الحماس الشعبي حتمًا للمبادئ الليبرالية في المنطقة ونماذجها المتجسّدة في الواقع، وستُولَد أفكار تحرّرية جديدة تنزّل الحرية والعدالة الاجتماعيّة ضمن سياق وطني (بمعنى القيمة وليس المجال)، ولن تتوقف موجة المراجعة النقدية للمنظومة الليبرالية على مستوى الأفكار فقط، بل ستكون الكلفة الجيوسياسية باهظة على القوى الغربية، وسيكون عليها أن تواجه سنوات من توتر العلاقات مع العالم العربي والإسلامي، بحجم ما يحصل اليوم في غزة من تدمير ممنهج ومن مجازر فظيعة.
استعادة المعنويات
المنعرج الإستراتيجي الثالث الذي أحدثه 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما تبعه من تداعيات، أن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته أخرج الأمة من حالة الانكسار النفسي الذي يخيّم بظلاله في اتجاهاتها الأربع. فأمام مرارة الوضع الذي آل إليه حال الشعوب بعد تراجع الربيع العربي، كان لهذا الثبات الذي أظهره الفلسطينيون دور في إخراج الأمة من حالة الجمود التي أصابتها. ولعلّ الاهتمام الشعبي والإعلامي الكبير بمتابعة كل تفاصيل الحرب في غزة، وخاصة عمليات المقاومة، كشف زاوية التعطش العام لمعرفة ما يجري في ساحات المعركة، لاستعادة المعنويات وإعادة بناء المناعة النفسية الجماعية. فبقدر ما تثير صور الدمار والتقتيل من غضب، فإن أخبار العقد القتالية والعمليات النوعية لها تأثير نفسي إيجابي على شعوبنا.
هذا الحدث، بلا شك، سيستنهض قوى الأمة لترميم أوضاعها وإعادة بناء صفوفها، وسيمهّد لها الأرضية النفسية والثقافية الإيجابية التي تعزز مشاعر الفاعلية الاجتماعية. بل لعل فئات واسعة تؤسس لمشاريع فكرية وسياسية تترجم هذا التحول في المزاج الشعبي العام، وتستجيب لتطلّعات الأمة في استعادة حريتها وكرامتها واستقلال قرارها الوطني.
ولنا في كل محطات النضال الفلسطيني منذ التسعينيات وحتى الآن، مجال للتفكر في دور هذه المسيرة النضالية في استنهاض الشعوب العربية والإسلامية من أجل التغلب على العقبات التي تعترض سبل استعادتها زمام المبادرة من جديد. فبقدر ما يستفيد نهج المقاومة في فلسطين من حاضنته العربية والإسلامية، بقدر ما تحوّل في محطات كثيرة إلى حالة غضب شعبي كان له تأثيره الفاعل إقليميًا ودوليًا.
المنعرجات الإستراتيجية الثلاثة لأحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول وما تبعها لامست ثلاثة ملفات رئيسية في المنطقة: القضية الفلسطينية، والعلاقات الغربية – الإسلامية، والتحولات الممكنة داخل العالم العربي والإسلامي. لكن إذا كنا نتحدث عن التغييرات ذات البعد الإستراتيجي، فما علينا إلا انتظار الوقت لنرى مفعولها في الواقع. فتاريخ الأمم لا يحصى بالساعات ولا بالأيام، وإنما بحجم التضحيات التي تبذلها شعوبها لتحديد وجهة الانتقال في المستقبل.