المليار يورو الأوروبية.. هدية مؤذية للبنان وشعبه
المليار يورو الأوروبية.. هدية مؤذية للبنان وشعبه
رادار 360 – ايليا ايوب
أعلن الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي عن حزمة مساعدات بقيمة مليار يورو (1.07 مليار دولار) للبنان. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال زيارتها بيروت: إن الأموال ستُخصص لتعزيز الخدمات الأساسية، وتنفيذ إصلاحات مالية، ودعم قوات الأمن اللبنانية، وإدارة الهجرة، وذلك في إطار سعي الاتحاد الأوروبي لتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
وبقدر ما ينبغي أن تشعرنا المساعدات التي تقدم لمن يحتاجها بنوع من الراحة، فإن هذه المساعدة على وجه الخصوص تصيبنا بقلق شديد، وهو شعور يصيب كل من يتابع انتهاكات وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي (فرونتكس). ولهذا ليس مدهشًا أن توصف الصفقة من قبل منظمة “سي ووتش”، وهي منظمة بحث وإنقاذ تعمل في البحر الأبيض المتوسط، بأنها “صفقة جديدة للمال مقابل العنف على الحدود”، أي أن أوروبا توفر الأموال في هيئة مساعدات مقابل أن تتولى عنها الدول الأخرى مهمة العنف والموت على الحدود.
سيكون لهذا الدعم المالي ثمن باهظ؛ إذ سيشجّع على تجريم أولئك المنكوبين الذين يسعون للتنقل من بلد إلى بلد، وسيتسبّب في مزيد من المعاناة للاجئين، ولا سيما السوريين الذين يعانون بالفعل من سوء معاملة في لبنان، ثم إنه أخيرًا سيقوّض جهود الشعب اللبناني للتخلص من نخبة سياسية فاسدة.
تعريض اللاجئين السوريين في لبنان للخطر
يأتي الإعلان عن حزمة المساعدات الأوروبية للبنان في سياق صفقات مماثلة تهدف إلى “معالجة الهجرة” مع دول أخرى في المنطقة. ففي العام الماضي، تلقت مصر وتونس وموريتانيا مبالغ كبيرة من الاتحاد الأوروبي مقابل اتخاذ إجراءات صارمة ضد من يحاولون العبور إلى أوروبا.
وشهدت ليبيا، التي تلقت دعمًا ماليًا من بروكسل لسنوات، بعضًا من أسوأ الانتهاكات. في مارس/آذار 2023، أعلنت بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة أن هناك “مؤشرات معقولة للاعتقاد بأن المهاجرين” في ليبيا، بمن في ذلك أولئك الذين أُجبروا على العودة بموجب الاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي وليبيا، هم “ضحايا جرائم ضد الإنسانية، تشمل القتل والإخفاء القسري، والتعذيب والاستعباد والعنف الجنسي والاغتصاب وغيرها.
هناك قلق متزايد بين المنظمات الحقوقية والناشطين من أن لبنان سيتبع نفس النهج في انتهاك آدمية اللاجئين.
الوضع في لبنان كان يزداد سوءًا حتى قبل الصفقة، حيث ارتفع عدد قوارب اللاجئين التي تغادر شواطئه. تأكدت الأمم المتحدة من أن 59 قاربًا على الأقل غادرت في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، مقارنة بـ 3 قوارب في نفس الفترة من العام الماضي. وقدر مركز سيدار للدراسات القانونية عدد القوارب بنحو 100 في عام 2023.
العدد الأكبر من ركاب هذه الرحلة الخطيرة هم من اللاجئين السوريين، ولكنْ هناك أيضًا مواطنون لبنانيون يحاولون يائسين الهروب من الاقتصاد المنهار والخدمات الاجتماعية شبه المنعدمة. اعتادت السلطات في الماضي التغاضي عن هذه الرحلات، لكنها في السنوات الأخيرة تعاونت أكثر فأكثر مع عمليات إعادة هؤلاء اللاجئين تحت ضغط من الاتحاد الأوروبي. وَفقًا لمنظمات حقوقية محلية، أبرم لبنان وقبرص اتفاقًا غير معلن لتنسيق الجهود لإعادة اللاجئين والمهاجرين إلى لبنان بعد وصولهم إلى قبرص، كما شاركت السلطات اللبنانية في دوريات حدودية عنيفة.
في أبريل/نيسان 2022، أغرقت البحرية اللبنانية قاربًا يحمل عشرات اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. وفقًا لشهادات شهود موثقة، صدمت سفينة تابعة للبحرية القارب، ثم ابتعدت وهي تراه يغرق بمن فيه. تم العثور على سبع جثث، من بينها طفل عمره 40 يومًا، فيما لا يزال 33 شخصًا في عداد المفقودين، ونجا خمسة وأربعون.
يتعرّض اللاجئون السوريون في لبنان لحملة قمع مكثفة، ويواجهون أعمال عنف يومية من جهات حكومية وشبه حكومية، كما تقوم الأحزاب الرئيسية بتجريدهم من إنسانيتهم بشكل روتيني في خطاباتها.
إضافة إلى ذلك، قامت السلطات بترحيل لاجئين سوريين قسرًا إلى بلادهم، بمن في ذلك نشطاءُ في المعارضة ومنشقون عن الجيش، ليواجهوا خطر التعذيب والموت على أيدي النظام السوري. يعرف من اتخذوا هذا القرار أن منظمات حقوق الإنسان أكدت مرارًا وتكرارًا في تقاريرها أن سوريا ليست بلدًا آمنًا لإعادة اللاجئين إليها. ويعلمون أن النظام السوري قتل العديد من المعتقلين لدرجة ترقى إلى مستوى “إبادة السكان المدنيين”، حسب تعبير الأمم المتحدة.
لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا وصفت مؤخرًا هذا البلد بأنه “جهنم”، حيث “يؤدي اقتصاد الحرب المتدهور والأزمة الإنسانية المدمرة إلى مستويات جديدة من المعاناة يواجهها سكانها المدنيون”. هذه هي أوصاف الهاوية التي يريد الاتحاد الأوروبي أن يعود اللاجئون إليها “طواعية”، ويخصِص جزءًا من حزمة المليار يورو “لاستكشاف نهج أكثر تنظيمًا للعودة الطوعية إلى سوريا”، حسب بيان فون دير لاين.
وهكذا يكون الاتحاد الأوروبي قد أعطى الضوء الأخضر للدولة اللبنانية لتستخدم العنف ضد فئات السكان الأكثر هشاشة: اللاجئين السوريين.
دعم النخبة الفاسدة
على جانب آخر، ستسهم حزمة الاتحاد الأوروبي السخية في تعزيز قبضة النخبة الفاسدة في لبنان ضد إرادة الشعب اللبناني.
يأتي ذلك وسط أزمة اقتصادية مستمرة منذ سنوات سببتها عقود من الفساد وانعدام الكفاءة وسوء الإدارة على أعلى مستويات الحكومة. تسببت تلك النخبة السياسية والاقتصادية في تركيع البلاد من خلال إدارة ما أسماه الاقتصاديون “مخطط بونزي المنظم وطنيًا”، حيث يتم اقتراض أموال جديدة لسداد الدائنين الحاليين.
في عام 2019، خرج الشعب اللبناني إلى الشوارع في أكبر انتفاضة غير طائفية في البلاد؛ لإظهار رفضه للنخب اللبنانية الفاسدة. واحتل مئات الآلاف من المتظاهرين ساحات المدن في جميع أنحاء البلاد. وعلى غرار الربيع العربي عام 2011، هتفوا: “الشعب يريد إسقاط النظام”. وردت حكومة الملياردير سعد الحريري بالاستقالة.
فشلت الانتفاضة في إحداث تغيير سياسي فوري، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية عندما تفشّت جائحة كوفيد-19 بعد بضعة أشهر من ذلك.
وفي أغسطس/آب 2020، انفجر حوالي 2750 طنًا من نترات الأمونيوم في ميناء بيروت، فأدّى ذلك لمقتل 218 شخصًا وإصابة 7000 آخرين وتدمير العاصمة. استقالت حكومة حسان دياب التي خلفت حكومة الحريري بعد فترة وجيزة من تسلمها الحكم. وظل دياب رئيسًا مؤقتًا للوزراء حتى تولى الملياردير ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي منصبه في سبتمبر/أيلول 2021.
وصفت الصحفية اللبنانية لارا بيطار الحياة ما بعد الانفجار في لبنان بأنها “محاولة قتل يومية من قبل الدولة”. وقد قامت الأوليغارشية الحاكمة وأمراء الحرب (الأوليغارشية: مصطلح يشير إلى تركز السلطة في يد مجموعة صغيرة) باستخدام العنف الممنهج كوسيلة للحفاظ على السلطة.
يضرب هذا المسلك بجذوره إلى التسعينيات (فترة ما بعد الحرب)، عندما شهد الشعب اللبناني صعود ما أسمته الباحثة روث ويلسون غيلمور “الدولة المناهضة للدولة”، أي التخلي المنظم عن خدمات الدولة من قبل نفس الأشخاص الذين يديرون دفة تلك الدولة.
في عام 2021، واعترافًا بدور النخب السياسية والاقتصادية في الأزمة اللبنانية، أنشأ الاتحاد الأوروبي نظام عقوبات ضد سياسيين لبنانيين متهمين بالفساد؛ وتم تجديد تلك العقوبات مرة أخرى في عام 2023.
أطلق الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الأمم المتحدة والبنك الدولي ما أسموه “إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار” الذي يهدف إلى تحقيق “التعافي الذي يركز على الناس ليعيد سبل العيش المستدامة إلى السكان المتضررين”.
ألا يحق لنا أن نتساءل: كيف يمكن لهذه الحزمة من المساعدات أن تحقق ذلك “التعافي الذي يركز على الناس”، إذا علمنا أن من سيتسلمها ويديرها هم نفس حكومة القلة وأمراء الحرب الذين تسببوا في الأزمات المتتالية في المقام الأول.
ستعمل الصفقة على ترسيخ سيطرة النخبة الحاكمة على الدولة، وترسل رسالة سياسية واضحة: الاتحاد الأوروبي لا يهتم بالمساءلة عن الجرائم في لبنان مادام أن نخبه، بغض النظر عن فسادها أو عنفها، تشارك في نظام الحدود الأوروبي.
ولم يعد من قبيل المبالغة وصف السكان المدنيين في لبنان – مواطنين أو مقيمين – بأنهم رهائن لنخبة عنيفة لا تخضع للمساءلة من الأوليغارشية وأمراء الحرب، وقد منح الاتحاد الأوروبي – للتو- لبنان مليار يورو لتعزيز قبضتها على الدولة.