مقالات

حسابات المكسب والخسارة فى أزمة غزة

حسابات المكسب والخسارة فى أزمة غزة

مرة أخرى، وكما أشرت فى مقالى السابق، أزمة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة ليست كغيرها من الأزمات السابقة التى مر بها إقليم الشرق الأوسط؛ فهى أزمة كاشفة عن حجم الخلل الكبير فى النظام العالمى، والأسس التى يقوم عليها هذا النظام، وهى كاشفة أيضا عن موازين قوى حقيقية فى الإقليم. هذه الموازين لم تتحدد من خلال الاستخدام الفعلى للقوة العسكرية، لكنها تتحدد ــ وربما يكون ذلك هو الأهم ــ من خلال ما تحقق من أهداف سياسية وأمنية لقوى الإقليم دون استخدام القوة العسكرية، وما لم يتحقق من هذه الأهداف رغم الاستخدام الفعلى للقوة العسكرية. لقد كشف العدوان من جديد أن القوة العسكرية ليست سوى أداة قد لاتنجح فى تحقيق الأهداف السياسية والأمنية للدولة، بل قد تساهم فى تدمير هذه الأهداف. وعلى العكس فإن التوظيف الذكى للقدرات والإمكانات العسكرية قد يؤدى ليس فقط إلى تحقيق ما لم ينجح فى تحقيقه الاستخدام الفعلى للقوة العسكرية، بل قد يؤدى إلى إفشال الأهداف السياسية والعسكرية للأطراف الأخرى.

لقد كشفت أزمة العدوان الإسرائيلى على غزة عن مجموعة من الحقائق المهمة، التى ستبقى معنا فى الإقليم خلال المرحلة المقبلة. أولى تلك الحقائق أن هناك حدودا لفعالية استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية. لقد نجحت إسرائيل فى تدمير قطاع غزة، وقتل الآلاف من المدنيين، لكنها لم تستطع ــ حتى الآن ــ الادعاء بتحقيق أهدافها السياسية والأمنية؛ فلا حديث موثوق به عن تدمير حماس، ولا استعادة للمحتجزين من خلال الآلة العسكرية، ولا تحقيق لأمن موثوق فيه لدولة إسرائيل ولا أمن المجتمع الإسرائيلى. والأهم هو فشل القوة العسكرية الإسرائيلية فى تنفيذ مشروع تصفية القضية الفلسطينية من خلال التهجير القسري. فى المقابل، نجحت إسرائيل، من خلال هذا الاستخدام الغاشم وغير المحسوب للقوة العسكرية، فى القضاء على سردية «الدولة الديمقراطية فى محيط غير ديمقراطي»، وتأكيد صورتها كدولة احتلال، تستخدم قوتها العسكرية خارج القانون الدولى الإنساني. وباتت تواجه اتهامات ودعاوى قضائية دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية. فى السياق نفسه، كشفت أزمة العدوان عن أزمة هيكلية مركبة داخل إسرائيل، تقوم على ثلاثة مصادر ضعف كبيرة، أولها، انكشاف المؤسسات العسكرية والأمنية فى مواجهة مجموعات من حركات المقاومة محدودة التسليح. وثانيها، هيمنة صراعات سياسية ودينية داخلية كبيرة أنتجت فى النهاية توازنات سياسية هشة. ثالثها، خضوع عملية صنع القرار السياسى والعسكرى لهذه الصراعات، الأمر الذى انعكس على فعالية الاستخدام السياسى للقوة العسكرية.

الاستنتاج المهم هنا أن القوة العسكرية فى حد ذاتها لا تضمن تحقيق الأمن، كما أن طريقة استخدام القوة العسكرية لا تضمن بالضرورة تحقيق الأمن ولا تحقيق الأهداف السياسية العليا للدولة. الأمر يعتمد فى التحليل الأخير على طبيعة القرار السياسى المرتبط باستخدام القوة العسكرية، ومهارة القيادة السياسية فى طريقة توظيف القوة العسكرية.

فى المقابل، قدمت مصر نموذجا مختلفا للقدرة على تحقيق أهداف سياسية كبيرة دونما استخدام فِعْلِى للقوة العسكرية، ودون أن ينفى ذلك توظيفها بشكل محسوب ودقيق فى إدارة الأزمة. أول النجاحات المصرية هو إفشال المخطط الإسرائيلى لتصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير القسرى لسكان قطاع غزة إلى سيناء، بل على العكس فقد ساهم هذا الموقف المصرى الصارم فى بناء وعى لدى الأجيال الفلسطينية الناشئة بأهمية التمسك بالأرض وخطورة القبول بالتهجير رغم قسوة الأوضاع داخل القطاع، ورغم التكاليف المادية والإنسانية الضخمة التى دفعتها هذه الأجيال نتيجة العدوان. ونجحت الدبلوماسية المصرية فى بناء قناعة دولية بخطورة إهمال القضية الفلسطينية دونما تسوية. لكن الأهم هنا أن مصر نجحت فى فرض اقتراب دولى جديد للتعامل مع القضية الفلسطينية؛ فبدلا من اقتراب المفاوضات التى كان من المفترض أن تنتهى بإٍقامة الدولة الفلسطينية، اقترحت مصر القفز مباشرة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومنحها العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، ثم الانتقال لاحقا إلى التفاوض حول باقى القضايا. الاقتراب المصرى هنا مبنى على قراءة دقيقة لخبرة عملية أوسلو التى انتهت إلى توقيع اتفاقات عام ١٩٩٣ دون أن تحقق الهدف الأعلى وهو إقامة الدولة الفلسطينية، ونجاح الجانب الإسرائيلى فى تقويض هذه الاتفاقات وتقويض الأساس المادى لمشروع الدولة الفلسطينية. الرؤية المصرية لقت تفاعلا دوليا واسعا على غير رغبة الجانب الإسرائيلى رغم تباهيه بتعطيل مسار إقامة الدولة الفلسطينية.

بالإضافة إلى هذين الهدفين الكبيرين، نجحت مصر فى تحقيق هدف ثالث لا يقل أهمية وهو صيانة الردع المصرى فى مواجهة مصادر تهديد الأمن القومي، من خلال التوظيف الدقيق والمحسوب للقدرات والإمكانات العسكرية المصرية فى سياق إطار سياسى أوسع. وعلى عكس ما كشفت عنه أزمة العدوان من وجود أزمة هيكلية مركبة داخل إسرائيل، فقد اتضح فى المقابل تناغم مصادر القوة الشاملة للدولة المصرية؛ بدءا من القدرات العسكرية وانتهاء بحالة الاصطفاف الوطنى خلف القيادة السياسية والجيش المصرى والمؤسسات المعنية بحماية الأمن القومي، ولم يكن يتحقق ذلك لولا وجود قيادة سياسية لديها القدرة على القراءة الدقيقة للواقع الدولى والإقليمي، والقدرة على التوظيف الذكى لعناصر القوة المصرية.

أخيرا، وليس آخرا، نجحت مصر فى تأكيد دورها كقوة سلام فاعلة وحقيقية فى الإقليم، وأنها الطرف الوحيد الذى لديه القدرة على طرح تصورات قابلة للنقاش والتفاوض حول طريقة الخروج من الأزمة. ورغم علاقة التحالف التى تجمع بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتطور العلاقات بين إسرائيل وعدد من قوى الإقليم خلال السنوات الأخيرة، لكن الأزمة أكدت من جديد أن الدور المصرى كوسيط أو كراع لأى مباحثات للهدنة أو وقف إطلاق النار لا يمكن تجاوزه أو تجاهله من أى طرف، وذلك لاعتبارات تتعلق بالثقل السياسى والدبلوماسى المصري، وعلاقات مصر بأطراف الصراع، وقبل ذلك لاعتبارات الجغرافيا السياسية.

هكذا، فى الوقت الذى تخرج فيه إسرائيل من الأزمة بخسائر مؤكدة (اهتزاز نظرية الردع الإسرائيلية، انكشاف سياسى وأمنى داخلي، تآكل صورة إسرائيل الدولية، الفشل فى تحقيق الأهداف المباشرة والمعلنة للحرب…إلخ)، فإن مصر تخرج من الأزمة بنجاحات مؤكدة (حماية القضية الفلسطينية دون التصفية، فرض اقتراب دولى جديد فى التعامل مع الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، حماية الأمن القومى المصري، صيانة الردع المصرى). مرة أخرى، هذه الأهداف الكبيرة تحققت دونما استخدام للقوة العسكرية، ودونما تورط مباشر فى الحرب، ومن ثم دون تكاليف عسكرية واقتصادية مباشرة. المفتاح فى هذه المعادلة المعقدة هو القيادة السياسية المصرية التى استندت فى توظيفها للقوة الذكية المصرية إلى قراءة دقيقة لطبيعة الأزمة، وسياقاتها الحاكمة.

إن القوة العسكرية فى حد ذاتها لا تضمن تحقيق الأمن، كما أن طريقة استخدام القوة العسكرية لا تضمن بالضرورة تحقيق الأمن ولا تحقيق الأهداف السياسية العليا للدولة. الأمر يعتمد فى التحليل الأخير على طبيعة القرار السياسى المرتبط باستخدام القوة العسكرية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى