جدير بالذكر أن الولايات المتحدة التي كانت تشجع الدول الأخرى على الانضمام إلى المحكمة قد استنكفت هي نفسها عن الانضمام ، بل لقد استصدرت واشنطن بعد إنشاء المحكمة قانوناً لحماية العاملين في حكومتها من مدنيين وعسكريين من المسؤولية القانونية أمام المحكمة ، وبناءً عليه فقد مارست ضغوطاً وعقدت اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي لضمان إعفاء الأمريكيين من أية مسؤوليات قانونية أمام المحكمة .
أما الصفعة الثانية التي تلقتها حكومة نتنياهو خلال الأسبوع الماضي فكانت إعلان ثلاث دول أوروبية غربية كانت تعتبر من حلفاء إسرائيل وهي إسبانيا وإيرلندا والنرويج اعترافها بدولة فلسطين ، علماً بأن دولاً أخرى من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بما فيها مالطا وسلوفينيا وربما بلجيكا تتأهب أن تحذو حذو الدول الثلاث وتعترف بالدولة الفلسطينية . لا شك أن ما حظيت به فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة من تأييد 143 دولة لمنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة قد شجع الدول الثلاث المذكورة على اتخاذ هذه الخطوة ، طبعاً إضافة إلى ما كانت قد حظيت به فلسطين من تأييد مجلس الأمن لولا أن الفيتو الأمريكي كان بالمرصاد لإحباط ذلك . وهنا لابد من ملاحظة أن عزلة إسرائيل في المجتمع الدولي قد بدأت تنتقل إلى واشنطن التي أصبحت تقف وحيدةً في دعمها لتل أبيب وأنفض عنها أقرب حلفائها وبدأوا يتخذون مواقف مستقلة عن الموقف الأمريكي .
الصفعة الثالثة التي تلقاها نتنياهو وحكومته يوم أمس الأول الجمعة تمثلت في القرار الذي اتخذته محكمة العدل الدولية في لاهاي بناءً على طلب دولة جنوب أفريقيا ، والذي يأمر إسرائيل بوقف أعمالها العدوانية في رفح فوراً وإيصال مواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى مناطق غزة كافةً والسماح للجنة التحقيق الخاصة بالمحكمة للبدء في أعمالها داخل قطاع غزة . ولعل أهمية هذا القرار تكمن أولاً في أنه اتخذ بشبه إجماع من القضاة ، أي بأغلبية 13 قاضياً من القضاة الدوليين الخمسة عشر ، حيث لم يصوت ضده سوى القاضي الإسرائيلي والقاضية الأوغندية (التي سبق أن تبرأت حكومة بلادها منها) . ومع أن قرار المحكمة ملزم لكنها لا تملك آليةً لتنفيذه والمتوقع أن يدعو وفد الجزائر العضو العربي في مجلس الأمن إلى عقد جلسة للمجلس بهدف اتخاذ قرار ملزم لتنفيذ قرار المحكمة . ولكن كما هو متوقع دائماً يخشى من استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) وفي هذه الحالة سوف تمر واشنطن بأحلك ظرفٍ دبلوماسي سيزيد من عزلتها ومن امتهانها للقوانين الدولية وسيؤكد لحلفائها وللعالم أجمع سياستها المتمثلة في الكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بحليفتها المدللة .
أما إذا قررت الإدارة الأمريكية أن تشرب حليب السباع وتمرر قراراً ملزماً في مجلس الأمن يطلب من إسرائيل التنفيذ الفوري لقرار المحكمة واستمر مع ذلك رفض تل أبيب للتنفيذ فلا يتبقى من حل لهذه المعضلة سوى فرض عقوبات مشددة على إسرائيل ، ولكن موقفاً كهذا من واشنطن يبدو بعيد المنال . والله من وراء القصد .
سفير سابق لدى الأمم المتحدة /جنيف
وباحث في العلاقات الدولية والدراسات الدبلوماسية